بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله واصحابه أجمعين.
أما بعد،
نقدم اليكم المقال الذي دوّنه الدكتور محسن عبد الحميد المندرج في كتابه “مقتطفات من كتاب النورسي الرائد الكبير” بمناسبة الذكرى الـ 59 لرحيل الإمام الجليل بديع الزمان سعيد النورسي رحمة الله رحمة واسعة.
نظرية المعرفة في القرآن الكريم من خلال رسائل النور
(…)رسائل النور هي تلك الرسائل التي ألفها الأستاذ سعيد النورسي، رحمه الله تعالى، لتحديد المذهبية الإسلامية في الوجود، بتفاصيلها الكاملة الشاملة، اعتبارا من تجواله الكوني الدقيق إلى الحديث عن الخالق العظيم وما يريده من الإنسان، من إيمان عميق، وتوحيد خالص، واستسلام خاشع لحاكميته المطلقة…
ومن المؤكد أن ذكاء النورسي الحاد، وخياله الخصب، واخلاصه العظيم لله سبحانه وتعالى وامتلاكه ثقافة إسلامية واسعة، ومعارف إنسانية متنوعة، بجانب قدرة فائقة على التأمل العميق، هو الذي انتهى به إلى كتابة تلك الرسائل النورانية التي تجاوزت مائة وثلاثين رسالة.[1]
على أن تلك الرسائل لم تكن عشوائية، وإنما اتبعت منهجا دقيقا في رسم نظرية واضحة للمعرفة الكونية والإنسانية، حتى لا يضل الإنسان، ولا سيما المسلم في تيه العبثية والخبطة العشواء في سوق المعارف المعروضة بلا حساب.
لقد رفض النورسي الغوص في التاريخ وما أنتج فيه من معارف مرتبطة بالزمان والمكان، تمثل صراعات المصالح والغرائز في هذه الأرض، والتجأ إلى القرآن الكريم مباشرة، كي يرسم نقطة الانطلاق لبناء مجتمع جديد ينمو كشجرة طيبة، مكان ذلك المجتمع الخرب الذي صنعه تخلف القرون المظلمة في العالم الإسلامي.
رفض علم الكلام القديم ولم يعرض مادته المعرفية، لأنها لم تكن تتصل بمشكلات عصره وهموم المسلمين في القرن الرابع عشر الهجري، ولأن منهجها لم يكن منهجا قرآنيا، إذ هي لم تستنبط مباشرة من القرآن الكريم، لأن تعاملها كان مع الفلسفات واللاهوتيات الأجنبية، التي كانت تمر بدهاليز العقل المنفرد في صراعاته اليومية لتحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح الذاتية التي كانت تنشد حب الانتصار وليس الحرص على الوصول إلى الحقيقة.
وكذلك رفض مناهج الفلسفات القديمة، لأنها انفردت بفهم الوجود من خلال عقل مادي لا يتجاوز عالم الشهادة ويفهم ظاهرا من الحياة الدنيا، فهي فلسفات وثنية لا تليق بالإنسان المكرم ولا يشرفه أن يكون تلميذاً لها.
بينما المنهج القرآني منهج صاف مباشر، يخاطب الكينونة الإنسانية مجتمعة، ويوقظ الفطرة النظيفة.
وكذلك يرفض الاعتماد على المعرفة الاشراقية التي تعتمد على رياضات وتجارب فردية، قد تختلط فيها الإلهامات الرحمانية مع النفثات الشيطانية، ولا نستطيع أن نفرق بين الإثنين، لأنها ابتعدت عن تلمذة القرآن الكريم واتباع القدوة العظمى في الوجود محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي سد الله تعالى بمجيئه كل باب، دون بابه الرباني النوراني المقبول.
إذن كيف ينطلق النورسي معرفيا إلى فهم قضايا الوجود؟
إنه ينطلق من ” الكل الشمولي” للقرآن الكريم في مخاطبة الفطرة الإنسانية. إنه لا يضع بين الحس والعقل والحدس خطوطا فاصلة، وإنما يدمجها في وحدة قرآنية للسير إلى الله سبحانه وتعالى، والتغلغل في فهم الجزئيات الدقيقة في المعرفة الكونية، لأنه يتلو مع القرآن آيات الكائنات في مسجد الكون الكبير، وليس في اقبية النظريات المعرفية المادية المحصورة بالقياسات المنطقية والنظريات المادية والخيالات الروحية.
أنه يقف أمام قرآن الكون ليقرأه قراءة شاملة عميقة ليصل إلى الله تعالى من خلال تناسقه ونظامه الباهر وجماله الأخاذ وفنه العجيب وقانونه الموحد وحركته المتوازنة.
وحينئذ فقط يعود الإنسان إلى حجمه الصغير، فيشعر بالفقر والتذلل والصغار والتضرع إلى خالق كل هذا وحده، ليكبر في حجمه تجاه المتكبرين والعالين في الأرض بغير الحق “لأن من كان ضيفا عند هذا الجواد الكريم جل وعلا، كيف يكون الفقر والحاجة إليه مؤلما وثقيلا.[2]
لكن قراءة الكون بشمولية ودقة وعمق يحتاج إلى ثمرات العلم، لأنه يكشف عن حقائق الوجود، ويفصل خريطة العالم، ويفرش أمام قوى الإنسان النظام الكامن في ملايين الجزئيات، ويبحث عن الخالق بلغته الخاصة.
وحينئذ يظهر اسم الحكمة، وتسقط براقع القوة العمياء والطبيعة الصماء، والأسباب التائهة والصدفة العشواء، لتذوب في دائرة المحال بألف وجه من الوجوه.
إن ملاحظة نظام العالم في ظل هذه القراءة الربانية الكاشفة عن حركة الكائنات، وفقرها إلى الخالق العظيم، هو الذي يدخل الطمأنينة الواعية في الكيان الإنساني. لأنه حينئذ يشعر بأن استمداد وجوده من الله تعالى هو جزء من فقر الكائنات إليه.
فكيف يعيش الإنسان بعد ذلك في دائرة ذاته أو عالمه المادي بدون شعور داخلي عميق متأجج بأنه عبد من عباد الله في هذا الكون الرحيب.
وقد يسألنا سائل فيقول: إذن أي عقل يريده النورسي في معرفته النورية إلى الله سبحانه؟
نقول:
إنه يريد العقل الذي يبيع نفسه إلى الخالق عز وجل، ولا يجعل نفسه ندا متمردا عليه سبحانه، لأنك إن لم تستعمله في سبيل كشف الحقيقة الربانية، بل جعلته يستسلم إلى الهوى والنفس الطاغية، فإنه يتحول إلى عضو مشؤوم، إذ يحملك آلام الماضي الحزينة واهوال المستقبل المخيفة. ولكن إذا سلكت بالعقل في سبيل الله وبعته لله، فإنه حينئذ يكون مفتاحا رائعا يفتح ما لا يعد من خزائن الرحمة الإلهية، وكنوز الحكمة الربانية. فأينما ينظر صاحبه وكيفما يفكر يرى الحكمة الإلهية في كل شيء وكل موجود وكل حادثة، ويشاهد الرحمة الإلهية متجلية على الوجود كله، فيرقى العقل بهذا إلى مرتبة عقل مرشد رباني يهيئ صاحبه للسعادة الخالدة.
ويحذر النورسي من شرور العقل إذا انفرد بموضع الأساس المعرفي للوجود بموازينه المحدودة ومنطلقاته المنفردة الخاطئة.
لماذا؟
لأنه – في حالة الشرود – سيجعل القوة نقطة الاستناد في الحياة الاجتماعية، ويلتزم بالتعصب العنصري مرابطة للجماعات.
وبعد استقراءات عميقة واسعة للحضارة العقلية المتمردة المعاصرة، انتهى إلى: إن شأن القوة الاعتداء، وشأن المنفعة هو التزاحم وشأن الصراع هو النزاع والجدال، وشأن العنصرية هو التجاوز على الآخرين.
بينما إذا انضم العقل إلى الكينونة الإنسانية، استند حينئذ إلى حكمة القرآن الكريم، فعوض عن النظرة المدمرة للحياة نظرة أخرى راحمة فيترك القوة ويتمسك بالحق ويستبدل بالمنفعة الوقوف عند الفضائل ويعتمد على التعاون أساسا في الحياة بدل الصراع. وبذلك تتحقق الإنسانية في أعلى مستوياتها في ظل عبودية المخلوقات كافة لرب العالمين.
إن العقل بهذا المعني الدقيق، المندمج في الكيان الإنساني المتكامل ضمن طاقاته واستعداداته المتنوعة، يحوّل الكائنات المعروضة أمامه من الأسرار الدقيقة المشاهدة في عالمي الأنفس والأفاق إلى علم كلام مفتوح، يمثل صفحة واضحة يجد فيها المرء براهين قاطعة على الخالق العظيم، ويشعر بإنس عجيب مع الكائنات كلها، لأنه يقرأ فيها فطرته التي كانت ضائعة تائهة مشوهة في بيداء ظلمات الكفر والتيه والانحراف والظلم والشرك.[3]
وإذا رجعنا فسألنا ما رأي النورسي في المعرفة الحدسية أو الإلهامية التي تظهر بالكشف عبر الرياضة الروحية في مدارج السالكين إلى الله تعالى.
نقول: يؤمن النورسي بأصل هذا الطريق، ويقول إن وجوده يقين في أخبار أهل الذوق والكشف.
ولكن تفاصيله ليست قطعية، إذ من الممكن أن يحصل خطأ أو تشويه في حكم من أحكامه ومشاهداته، في حالة الشهود التي لا ضوابط ولا حدود لها. والكتاب والسنة هما الميزان لتصحيح الأخطاء. ولذلك يقول ” ولا ريب أن أهل الشهود هؤلاء عندما يرقون إلى مقام الأصفياء سيدركون خطأهم بأنفسهم بإرشاد الكتاب والسنة ويصححونها. وقد صححها قسم منهم “.
ويبني النورسي على ذلك أن درجة الشهود أوطأ بكثير من درجة الإيمان بالغيب. ولذلك فالكشفيات التي لا ضوابط لها لا تبلغ أحكام الأصفياء والمحققين من ورثة الأنبياء الذين لا يستندون إلى الشهود بل إلى القرآن والسنة اللذين يرجع إليهما وحدهما في جميع الأحوال الروحية والكشفيات والأذواق والمشاهدات.
وفي معرض رده على نظرية وحدة الوجود يقول: نعم إن الصراط المستقيم هو طريق الصحابة والتابعين والأصفياء الذين يرون أن حقائق الأشياء ثابتة، وهي القاعدة الكلية لديهم. وهم الذين يعلمون أن الأدب اللائق بحق الله سبحانه وتعالى. وهو قوله﴿ ليس كمثله شيء ﴾أي أنه منزه عن الشبه والتحيز والتجزؤ، وأن علاقته بالموجودات علاقة الحقائق بالمخلوقات. فالموجودات ليست أوهاما كما يدعي أصحاب وحدة الوجود. بل هذه الأشياء الظاهرة هي من آثار الله سبحانه تعالى”.
فعلى ذلك فإن الصراط المستقيم، بل صراط الولاية الكبرى عنده، إن هو إلا طريق الصحابة والأتقياء والأصفياء والتابعين وأئمة أهل البيت والأئمة المجتهدين. وهو الطريق الذي سلكه التلاميذ الأول للقرآن الكريم.
ويرفض النورسي مناهج الطرق الصوفية التي جانبت القرآن والسنة في السلوك إلى الله تعالى ولم تنج من لوثة الأخطاء والانحرافات، فيقترح لذلك طريقا قرآنيا خالصا مختصرا إلى الله تعالى، لا شائبة فيه للاجتهادات الفردية والالهامات الباطلة وليست فيه عقبات وتعقيدات، من أربع آيات في كتاب الله، تنحصر في خطوات أربع هي: العجز، والفقر، الشفقة، التفكر.[4]
فالعجز أقرب وأسلم طريق إلى الله تعالى، إذ هو يوصل إلى المحبوبية بطريق العبودية.
والفقر مثله يوصل إلى اسم الرحمن.
والشفقة كذلك موصل إلى الله تعالى، إلا أنه أنفذ من الفقر في السير وأوسع مدى، إذ يوصل إلى اسم الله الرحيم.
والتفكر كالعشق، إلا أنه أغنى منه وأسطع نورا وأرحب سبيلا إذ يوصل السالك إلى اسم الله الحكيم.
ويستنبط النورسي هذه الحقائق من قوله تعالى:﴿ فلا تزكوا أنفسكم ﴾وقوله﴿ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ﴾وقوله﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾وقوله:﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾.
فهذه خطوات أربع تمثل الحقيقة الشرعية، أكثر مما يعبر عن طريق الصوفية.
ويقول النورسي موضحا:
” ولا يذهب بكم سوء الفهم إلى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير، إنما هو إظهار ذلك كله أمام الله سبحانه وليس إظهاره أمام الناس.”.
أما أوراد هذه الطريقة القصيرة وأذكارها فتنحصر في إتباع السنة النبوية والعمل بالفرائض، ولا سيما إقامة الصلاة باعتدال الأركان والعمل بالأذكار عقبها وترك الكبائر”.
إذن فالإلهام عنده ليس مصدرا مستقلا عن الوحي الإلهي في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، إنما تأتي إشراقاته ببركتهما وقوة الالتزام بأحكامها.
لماذا؟
لأن الوحي الإلهي هو الأساس في الوجود، عقيدة وشريعة وسلوكا فإذا كان للحس مجاله وللعقل مجاله في عالم الشهادة وفي قيادة الإنسان إلى الله تعالى، والوقوف عند حافة دقائق وحقائق عالم الغيب.
فما بعد تلك الحافة إلى العمق مجاله غيب، لا يحيط به إلا علم خالقه سبحانه.
فحتى تتكامل معرفة الإنسان بحقائق الوجود كله، أمده الله تعالى بالنبوة وجعلها مصدر الحقائق النهائية عن طريق الوحي الإلهي.
ويؤكد النورسي أن التحول الحقيقي في حياة الإنسان يبدأ من هذه النقطة الخطيرة. لأن معنى” انا ” في الإنسان يتحول إلى معنى في غيره وإن وجوده يقوم بوحد غيره. لأن مالكيته للأشياء وهمية أي أن له مالكية موقتة ظاهرية بإذن مالكه الحقيقي. وحقيقته واحدة حقة، ووظيفته القيام بطاعة مولاه طاعة شعورية كاملة ميزانا لمعرفة صفات الله خالقه ومقياسا للتعرف على شؤونه سبحانه.[5]
أما الوجه الثاني ل ” أنا ” الذي يرى نفسه في نفسه عكس ذلك، أي أنه يريان له ماهيته الحقيقية في ذاتها وليس من خالقها. أي يدل معناه على نفسه لا في غيره، ووجوده أصيل، لا تبعي. ومالكيته حقيقية لا وهمية، ووظيفته عبادة نفسه لا خالقه. هذه ” أنا ” المتمردة الشاردة هي التي انتجت فلسفة مظلمة شريرة ضالة، تعمل لأجل نفسها لا لغيرها، أي تعمل بمعزل عن الوجود الحقيقي والمالك الحقيقي. ومن هنا فإنها لم تلتق بالنبوة ورسالاتها، ولم تكن بخدمتها والكشف عن أهدافها.
فإذن إذا أردنا أن تنتفي هذه المظلمة الشريرة الضالة، فلا بد أن نملأ الفراغ الأخير من سلسلة المعرفة. وهو فراغ الغيب الذي لا يستطيع الحس والعقل أن يجيب على حقائقه إلا الوحي الإلهي الذي انتهى بالوحي الخاتم الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي جسد الله تعالى فيه الكمالات الإنسانية المنبثقة من أسمائه الحسنى، فهو القدوة والأسوة. لأن أصول الدين وأسس التربية التي جاء بها الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام هي من الرسوخ والكمال ما لا يمكن أن يحرز نورا ولا كمال قط من يدعها ويتركها بل يحكم عليه بالتردي والسقوط المطلق إذ إنه خاتم النبيين والمرسلين وإمام البشرية بأكملها في الحقائق كلها”.
ولما كان الرسول الأكرم هو الآية الكبرى في كتاب الكون الكبير، لا يحتاج معه في التعرف إلى عالم الغيب غيره من مصادر المعرفة المادية، بل إننا بتلك المصادر نثبت ذلك البرهان الحق، إذا استعملنا موازيننا بانصاف واتزان وتعقل. لأن القرآن الناطق فيه النور كله والدعوة كلها والحكمة الصائبة كلها، وحقائق جواهر المعاني جميعها.
هذا النبي الخاتم برهان. ووجوده أيد النور الذي جاء به وهو القرآن الكريم الذي يصفه النورسي بفكره العميق النير، وبلاغته الواضحة النادرة فيقول:” هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات. والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية ومفسر كتاب العالم. وهو كشاف لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السماوات وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة. وكذا هو خزينة المخاطبات السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية. وكذا هو أساس وهندسة وشمس لهذا العالم المعنوي الإسلامي وكذا وخرطة للعالم الأخروي.وكذا هو قول شارح وتفسير واضح وبرهان قاطع وترجمان ساطع لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه. وكذا هو مرب للعالم الإنساني. وكالماء وكالضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلامية. وكذا والحكمة الحقيقية لنوع البشر. وهو المرشد المهدي إلى ما خلق البشر له.
وكذا هو للإنسان: كما أنه كتاب شريعة كذلك كتاب حكمة. وكما أنه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة. وكما أنه كتاب ذكر كذلك كتاب هو كتاب فكر وكما أنه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة في مقابلة جميع حاجات الإنسان المعنوية. كذلك هو كمنزل مقدس مشحون بالكتب والرسائل. حتى أنه أبرز لمشرب كل واحد من أهل المشارب المختلفة ولمسلك كل واحد من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين، رسالة لائقة لمذاق ذلك المشرب وتنويره ولمساق ذلك المسلك وتصويره، حتى كأنه مجموعة الرسائل”.
ولو رجعنا إلى الفلسفة الجامدة البشرية التي تتحرك بين المصدرين الحس والعقل ولا تتجاوزهما ولا تؤمن بما وراءهما نجد أنها تنظر إلى الدنيا على أنها ثابتة فتذكر ماهية الموجودات وخواصها ذكرا مفصلا مسهبا، بينما لو ذكرت وظائف تلك الموجودات الدالة على صانعها فإنها تذكرها ذكرا مجملا مقتضبا. أي أنها تفصل في ذكر نقوش الكون وحروفه، في حين لا تعير معناه ومغزاه اهتماما كبيرا.
أما القرآن الكريم فإنه ينظر إلى الدنيا على أنها عابرة سيالة، خداعة سيارة متقلبة لا قرارها ولا ثبات. لذا يذكر خواص الموجودات وماهياتها المادية الظاهرة ذكرا مجملا مقتضبا، بينما يفصل تفصيلا لدى بيانه وظائفها التي تنم عن عبوديتها التي أناطها بها الصانع الجليل. ولدى بيانه مدى انقياد الموجودات للأوامر التكوينية الإلهية وكيف وبأي وجه من وجوهها تدل على أسماء صانعها الحسنى”.[6]
ومن هنا فإن النورسي لا يؤمن بالمعرفة الجزئية التي كانت تعالج بمعزل عن القرآن الكريم. وكان يعدها من نقائص العقل البشري، بينما هو يعكس القضية، فينطلق من القرآن إلى التوغل في جزئيات الوجود. فهو بذلك طريق أمين. إذ في الأول قد يضيع الباحث عن الحقيقة ويخرج على المحور. وأما في الثاني، فالمحور واضح وأرض صلدة. فلا خوف على من يبدأ بالقرآن، لأنه شجرة تمثل جميع الأغصان، على حين أن الأفكار البشرية أغصانها منفردة. بسبب أن القرآن الكريم جمع بين القيم التي تنبثق من اسماء الله الحسنى جمعا متوازنا متسقا لا تنفصم عراه. بينما الأفكار البشرية تعرض القيم عرضا منفردا متأثرة بالزمان والمكان. فما يكون قيمة لا يعود في زمان آخر. وما يعمل به في مكان قد يترك في مكان آخر لتغلب المصلحة الذاتية والظروف المتقلبة.
فإذا كان ذلك كذلك، فإن طريق القرآن الكريم هو وحده الذي يوصل إلى الله سبحانه، لأنه أقرب الطرق إلى إثارة الفطرة الإنسانية وتحريك العقول الباحثة والقلوب العامرة بالتوثب الدائم، وأكثرها انطباقا على آيات الأنفس والأفاق، لأن الوجود قرآن واحد بثلاثة وجوه.
إذن فأصول المعرفة التي آمن بها النورسي، هي الأصول القرآنية التي يأخذ بعضها برقاب البعض الآخر من الحس والعقل، لكن في اندماج قرآني واحد.
وهذا هو الذي دفع النورسي أن يرسم في رسائله منهجا قرآنيا راسخا، لا يرتبط بمرحلة معينة ولا برهان معين. وإنما هو المنهج الذي يشكل السقف المتين فوق تاريخ الأمة الإسلامية، لكن بلغة العصر وصراع العصر في مواجهة العصر.
وهذا هو سر نجاحه في دعوته الإسلامية لإنقاذ
الإيمان في هذا العصر، لم ينطلق من مناهج تاريخية ضيقة كانت تشكل صراعات ماضية بين
الحضارة الإسلامية والحضارات الغازية، والتي استنفدت أغراضها في العصر الحديث،
وظهرت مكانها مشكلات داخلية وخارجية، عدم معالجتها بعمق وعصرية يشكل خطورة كبيرة
على مستقبل العالم الإسلامي. وإنما انطلق من ” الكل القرآني ” الذي يقرأ
الكون ببراهينه الثلاثة، برهان الكون المنظور ” الكائنات ” وبرهان الكون
المقروء ” القرآن الكريم ” والبرهان الناطق “رسول الله صلى الله
عليه وسلم “[7]
[1] المؤتمر العالمي الرابع لبديع الزمان سعيد النورسي نحو فهم عصري للقرآن الكريم “رسائل النور أنموذجاً”، ص:507
[2] المصدر السابق، ص: 508
[3] المصدر السابق، ص:509
[4] المصدر السابق، ص:510
[5] المصدر السابق، ص:511
[6] المصدر السابق، ص:512
[7] المصدر السابق، ص: 513