إن الإمام بديع الزمان سعيد النورسي الذي جعل خدمة القرآن أعظم غاية وهدف لحياته يُبَيِّنُ لإنسان هذا العصر الذي انحدر عقله إلى عينيه، والذي أصبح يشك بسبب الفلسفة المادية في وجود شيء لم يره، أنه حتى في كتابة القرآن إعجاز يخاطب العيون، وكان يرغب في أن يكتب المصحف كي يظهر فيه هذا الجمال اللطيف ذا المعاني الذي يسمى بـ“التوافقات”.

ومن أجل تحقيق أمله هذا وزّع على كل واحد من عشرة من تلاميذه العلماء ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم، وطلب منهم أن يستخرجوا خواصَّ التوافق الموجودة فيه أصلا، وأوصاهم في أثناء القيام بهذا العمل أن يتَّخذوا مقياسًا لهم المصحف الذي كتبه الخطاط الكبير الحافظ عثمان، ذلك المصحف الذي تبدأ كل صفحة فيه بآية وتنتهي بآية، وأن يعملوا بإخلاص تَامٍّ وألاَّ يدخلوا اختيارهم وإرادتهم في ذلك ونبّههم قائلاً: لا تدخلوا اختياركم، ولا تعدموا ما هو موجود أصلاً، فتقدم لكتابة المصحف التوافقي كل من أحمد خُسرَوْ أفندي، وهو من أقرب تلاميذ الإمام النورسي، والحافظ علي، والأستاذ خالد، والمُعَلِّم غالب، والأستاذ صبري، والحافظ زهدي، وحقي الطغلي، والحافظ توفيق الشامي، وكل واحد من هؤلاء إما حافظ للقرآن الكريم، وإما أستاذ، وإما معلم للخط العربي، وسلَّموا الأجزاء للإمام بعدما كتبوها.

ويبين الإمامُ النتيجةَ بعد تحقيق طويل كالآتي:

“إن التوافق هو في أسلوب خُسرَوْ؛ لذا فإن كان لخسرو مهارة فهي أنه لم يخل بالتوافق، وكنت قد أوصيت بألا يُدْخِلَ أحد مهارته؛ إذ إن أعظم مهارة هي عدم الإخلال بالتوافق؛ إذ التوافق موجود، فمع أن خُسْرَو لم يستطع أن يلحق بهم في الخطِّ العربيّ فإنّه تفوّق فجأة على جميع هؤلاء الخطّاطين ومعلِّمي الخطّ العربيّ، وسبق أكثرهم إتقانًا في الخطّ العربيّ بعشر مرّات، فأقرّ هؤلاء جميعًا بقولهم: أجل؛ إنّه سبقنا وتفوَّق علينا ونحن لا نستطيع أن نبلغ شأوه في هذا الأمر”.

“إذن فقلم خُسْرَو يُظْهِرُ كراماتٍ وخوارق شبيهة بالمعجزات للقرآن المعجز البيان ولرسائل النور”.

ففي مصحف التوافقات تأتي جميع ألفاظ الجلالة البالغة ألفين وثمانمائة وستة في القرآن الكريم إما بعضها تحت بعض في صفحة واحدة، وإما وجهًا لوجه في صفحات متقابلة، وإما بعضها في ظهر بعضها الآخر في صفحات أخرى، أي تتوافق بعبارة خاصة، ثم إنّ كلمات كثيرة تنشأ عن أصل واحد، و تحمل المعاني نفسها، أو تحمل المعاني المتقاربة؛ تتوافق بانسجام لطيف.

ويظهر التّوافق ظهورا بديعا عجيبًا في قلم الأستاذ أحمد خسْرَو آلتِين بَاشَاق اللّطيف العجيب، حتى عبَّر الأستاذ بديع الزّمان عن هذا بقوله: لو فهم العقل لقال “سُبْحَانَ اللهِ”، ولو أدرك القلب لقال “بَارَكَ اللهُ”، ولو رأتْ العين لقالت “مَا شَاءَ اللهُ”.

أجل؛ إن كاتب مصحف التوافقات قد ظهر، إنه أحمد خسرو آلتين باشاق.

ويعبر الإمام بديع الزمان في عدة رسائل عن ارتياحه ورضاه عن قلمه بهذه العبارات: “يا خسرو العزيز والصدّيق والمبارك الذي أظهر وجها من وجوه إعجاز القرآن بقلمه البديع، والذي يُكتَب في دفتر حسناته وصحيفة أعماله باستمرار ثواب من يقرءون ذلك المصحف الذي كتبه”.

“ما شاء الله، بارك الله! إن قلم خسرو الذي صار مفتاحا ذهبيا للقرآن الكريم لا يجعلُنا نُسَرُّ فحسب وإنما الملائكة والروحانيين أيضا يُسَرُّون”.

“يا خسرو، فكِّر في دعوات الرحمة التي ستنزل على روحك من عالم الإسلام مع طبع مصحف التوافقات الذي كتبتَه واحمد الله واشكره”.

قد كتب خسرو أفندي المصحف تسع مرات، ثلاث منها في حياة الإمام بديع الزمان، وست منها بعد رحيله.

وملايين من الناس في العالم الإسلامي يقرءون اليوم مصحف التوافقات الذي طبع في سنة 1984م من قبل وقف الخيرات الذي أسسه مع تلامذته، ويرسلون دعوات الرحمة إلى روحه، رحمة الله عليه.