المستخلص

يروم هذا البحث تجلية منهجية الوسطية والاعتدال التي تتسم بها رسائل النور؛ بالإشارة لطائفةٍ من القضايا والمسائل التي طرحتها رسائل النور، ومن ضمن تلك المسائل ما يجيء كإشكالية رئيسة لهذا البحث؛ ألا وهي قضية رفض أعداد مقدرة من المسلمين في مجتمعات بعينها إلحاق أبنائهم بالمدارس الحديثة خشية انجرافهم بعيدة عن تعاليم الإسلام وأصوله، وما يستتبعه ذلك الرفض من آثار على كأفة الأصعدة المجتمعية؛ مما ينتهي بتلك المجتمعات الإسلامية لتظل قابعة في دائرة التهميش والتخلف من جهة، والاستهداف والترصد لها بحسبانها بؤرة استيلاد للتطرف والعنف من الجهة الأخرى.

سعتْ الدراسة إلى البدء باستهلال تأسيسي يتضمن معالم الرؤية النظرية للإمام بديع الزمان النورسي حول الجمع بين تعليم علوم الشريعة من جهة وعلوم الكون من الجهة الأخرى، ومن ثم عرض لفكرة مدرسة الزهراء بحسبانها التطبيق الواقعي الذي بادر إليه الإمام النورسي، ليُقدم البحث ملامح التجربة العملية والتطبيقية التي تأسست على أرض الواقع من بعد بواسطة طلاب رسائل النور استناداً لرؤية الإمام النورسي.

خلصت الدراسة إلى دعوة الباحثين والدارسين لمزيد من دراسة أطروحة ورؤية الإمام النورسي في الجمع بين تدريس العلوم الدينية والعلوم الحديثة والمزج بينهما؛ باعتبارهما جناحان يترافقان بالنهوض بالأمة باتجاه ترسيخ الإيمان وتعزيز المعارف العقلية.

على نحوٍ مماثل قرظت الدراسة تجربة مدارس الأئمة والخطباء بتركيا، داعيةً إلى الاستفادة منها لفتح مسارٍ للتعليم يُحقق للذين يَدرسُون العلوم الشرعية ذاتَ الفرص التي ينالها دارسي العلوم الحديثة في الترقي العلمي أو المهني وتقلد الوظائف المجتمعية العامة.

كما نبهت الدراسة في خاتمتها إلى أهمية الدراسة والإحاطة بتجربة وقف الخيرات في إنشاء البيوت النورانية لرفد المجتمع بشبابٍ راسخ في إيمانه وقادر على مواجهة الأفكار الهدامة.

الكلمات المفتاحية: علوم الشرع، علوم الكون، رسائل النور، الاعتدال.

توطئة:

السمة التي تعلن عن نفسها بجلاء على امتداد رسائل النور للإمام بديع الزمان سعيد النورسي، والمنارة التي تشع بنورها الساطع على سائر القضايا والمسائل محل تناول تلك الرسائل؛ هي» الوسطية والاعتدال»، والوسطية والاعتدال تمثلان روح هذا الأمر وعماده، فالوسطية والاعتدال يراد بها في السياق العام تجنب الوقوع في تضييع الرشد من الأعمال والمعاني سواء بالتقصير والقصور عن الحد المطلوب (تفريط) من جهة؛ أو بالإسراف والاعتداء تجاوزًا لذات الحد (الإفراط) من الجهة الأخرى. 

لعل إدراك حد الوسطية والاعتدال بين حدي التفريط والإفراط ينظر إليه بحسبانه هبة وموهبة لا تتوافران إلا للموفقين من الدعاة والمصلحين؛ إذ يتطلب ذلك الأمر قدرة فائقة على تشخيص تلك الحدود الثلاثة وتنزلاتها على الوقائع والحوادث، بالإضافة إلى رؤية المباينة والمفارقة ووجوه المقاربة بين حد التوسط والاعتدال ووقائع تلك الأحوال وتبدياتها، وهذا ما توافر عليه بكرم الله وإكرامه الإمام بديع الزمان سعيد النورسي الذي تشهد سيرة حياته العطرة على السمو القيمي والأخلاقي الرفيع الذي تناهى إليه، كما تعبر مواقفه عن تجذر الولاء لأمته الإسلامية، والرغبة الصادقة في خدمتها والنهوض بها في سبيل تجاوز عثراتها، وفي الوقت ذاته تشير مؤلفاته إلى تمكنه على نحوٍ جليٍّ من دائرة واسعة من المعارف والعلوم على صعيد علوم الألسن والأدب والشريعة والعلوم التطبيقية الحديثة.

إن منهجية الوسطية والاعتدال التي تتسم بها رسائل النور يمكن الإشارة إليها بالتحقق والدرس المتأني لطائفةٍ من القضايا والمسائل التي طرحتها رسائل النور، وهي مسائلٌ كانت وستظل محلَ استفهامٍ وتساؤلٍ من قبلِ الكثيرين في زمان النورسي وغيره؛ إذ ما يزال ما أفاد به الإمام النورسي من أطروحات وإجابات يُقدم مضامين معرفية وفكرية صالحة للوفاء بتقديم حلول شافية للكثير من قضايا واقعنا المعاصر وخلاصاً من أزماتنا الراهنة.

وفق هذا السياق يمكن الإشارة على سبيل التمثيل إلى مواقف عديدة للإمام بديع الزمان سعيد النورسي تمثل روح الوسطية والاعتدال كموقفه من الحضارة الغربية؛ وموقفه من مسألة الخلاف المذهبي بين مكونات الأمة الإسلامية، وموقفه من قضية التعليم بشقيه سواء تعليم العلوم الشرعية أو علوم الكون الحديثة، وظني أن كل هذه القضايا وغيرها قد وجدت حظها بالعرض تفصيلًا في طائفة من الدراسات؛ بيد أن موقف الإمام النورسي من قضية التعليم هي التي يُراد لها أن تكون محل استفاضة هذه الورقة البحثية، سائلًا الله عز وجل التوفيق في عرض أطروحة الإمام النورسي حول التعليم.

طبيعة وماهية المشكلة الماثلة بين أيدينا:

شهدت معظم مناطق العالم الإسلامي منذ بدايات القرن الميلادي الماضي المحاولات الأولى لتسرب نمط جديد من التعليم؛ بدأ مغايرًا للتعليم الذي كان سائدًا حينها إذ ظل تعليمًا يقوم في طابعه العام على العلوم والمعارف الموصولة بالدين الإسلامي، سواء علوم اللغة العربية أو علوم القرآن الكريم والحديث الشريف أو الأصول والفقه والكلام ونحو ذلكمما يشار إليها جملة بالعلوم الشرعية، ولاحقًا بدأ ذلك النمط الجديد من التعليم الذي اتجه بصورة أساسية باتجاه تعليم اللغات الغربية إلى جانب العربية، بالإضافة إلى تدريس العلوم الحديثة كالكيمياء والفيزياء والأحياء والفلك والجغرافيا والهندسة ونحو ذلك.

وفق هذا السياق كانت النشأة التاريخية لنمطين من التعليم، أحدهما معني بالكلية بتعليم العلوم الشرعية وتختص به المدارس الشرعية، والنمط الثاني هو الذي ينصرف باتجاه التركيز على تعليم علوم الكون الحديثة وغالبًا ما يطلق عليه التعليم الحديث، وعلى تباين مسارات وتحولات العلاقة بين هذين النمطين من التعليم من بلد إسلامي لأخر تبعًا لظروف كل بلدٍ؛ وعلى الرغم من ذلك فإن بعض مناطق المسلمين ما زالت الإشكالية بين هذين النمطين تمثل هاجسًا في تلك المجتمعات وعائقًا في ذات الوقت دون نهوض أجيال المسلمين في تلك المجتمعات، بل وأوجدت واقعًا مأزومًا انتج وقائع كارثية مؤسفة على مستوى تلك المجتمعات.

ففي بعض مجتمعات غرب أفريقيا على سبيل التمثيل تبدو هذه الصورة جلية وظاهرة، فطوائف من المسلمين يَرون حرمة إدماج أبنائهم في سلك المدارس الحديثة، وعوضًا عن ذلك يتجهون بأبنائهم صوب المدارس الشرعية؛ والإشكال يجيء من ناحية عدم اعتراف الدولة بالشهادة الأكاديمية التي تمنحها هذه المدارس الشرعية لخريجيها، وثم فهم مستبعدون بالكلية من الانخراط والترقي في مؤسسات التعليم العالي، وهذا ينتهي بهؤلاء الخريجين في هذه المدارس إلى أن يكونوا خارج مسارات الوظائف المهنية كالهندسة والطب والإدارة ونحو ذلك؛ وهذه حالة تخلص بهم إلى أن يظلوا خارج وظائف الدولة ومؤسساتها المدنية؛ وثم فهذا يكرس لوضع يظل فيه هؤلاء الخريجين قابعين على هامش الحياة الإجتماعية.

يحدث هذا بينما أقرانهم ورصفائهم على الضفة الأخرى ممن انخرطوا في المدارس الحديثة تنفتح أمامهم مسارات الترقي في التعليم العالي، وينتهي بهم الأمر بعد تخرجهم فيها إلى توسد وتسنم وظائف الدولة والتمتع بمزاياها على كافة الأصعدة الإجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وعلى الرغم من نتيجة هذا الأمر واستمراره في تلك المجتمعات؛ إذ ظلت تلك الحالة تُرسخ لتهميش المسلمين في تلك المجتمعات على ما يمثلونه من ثقل سكاني كبير؛ إلا أنه لا بد من الإشارة إلى موقف طوائف من العلماء والدعاة ظلت على الرفض لانخراط الفتيان المسلمين في مسارات التعليم الحديث، وموقف هؤلاء يمكن قراءته من زوايا كثيرة إحداها المصلحة المباشرة لهؤلاء العلماء في انتماء الطلاب لمدارسهم التقليدية، وهذا السبب وغيره ما يجعل الإنفكاك من هذا التهميش معضلة وإشكالية جديرتين بتقديم الحلول المناسبة لتجاوزهما.

بيد أن ما يزيد قتامة المشهد ويمضي به باتجاه الأسوأ هو نشؤ علاقة بين الموقف الرافض للتعليم الحديث من جهة، وموجات اللجؤ إلى الفعل العنيف الموصول بالتعبير عن هذا الموقف من الجهة الأخرى، وهو ما يدفع باتجاه تعقيد الأمور وسوقها نحو الأسوأ، مما يجعل المجتمعات الإسلامية في تلك المناطق تظل قابعة في دائرة التهميش والتخلف من جانب، والاستهداف والترصد لها بحسبانها بؤرة استيلاد للتطرف والعنف من الجهة الأخرى.

إزاء هذه الإشكالية التي نرأها ماثلة في نواحي عديدة من مجتمعات المسلمين وفق درجات تباين وتقارب مختلفة تبعًا لكل حالة، فقد وددت التعريف بالأطروحة التي تفرد بها الإمام بديع الزمان سعيد النورسي، وهي أطروحة لا تمتاز بقوة الإطار النظري والمضمون المعرفي اللذين تقدمانه فحسب؛ بل يضاف إلى ذلك نجاحها في المنحى العملي والتطبيقي إذ أثبتت أطروحته تلك كفاءة عالية في مخرجاتها من خلال تجربة واقعية أثمرت ثمارًا طيبة أظهرها طلاب رسائل النور طيلة حقبة زمنية امتدت لعقودٍ من الزمان.

وفق هذا السياق فإنني أسعى باتجاه الخلوص إلى أهدافنا البحثية هنا عبر منحى أول يتضمن تجلية التأسيس النظري لرؤية الأمام بديع الزمان النورسي من ناحية، ومنحى ثانٍ عماده عرض فكرة مدرسة الزهراء عند الإمام النورسي، والمنحى الثالث يتضمن عرض عام لملامح التجربة العملية والتطبيقية التي تأسست على أرض الواقع استنادًا لتلك الأطروحة التأسيسية، لأخلص ختاماً إلى بعض ما رأيته من توصياتٍ.

أولًا : الأسس النظرية لرؤية الإمام النورسي حول الجمع بين تعليم علوم الشرع والكون

أحاول في هذه التوطئة أن أقدم بعض الملامح العامة للأسس النظرية التي تستند إليها أُطروحة الإمام النورسي حيال الجمع بين تعليم علوم الشريعة من جهة، وتعليم علوم الكون من الجهة الأخرى، وهي تجيء مبثوثة على امتداد طائفة من رسائل النور كالكلمات والمكتوبات وعصا موسى والمثنوي العربي النوري. 

1- التعلم موصول بالإيمان ومتعلق بماهية الإنسان: 

 في ثنايا رسائل النور إفاضات كثيرة للإمام النورسي في تجلية حقائق الإيمان، وثمة منحى مركزي يُعبر فيه الإمام النورسي عن تناولٍ عميق للبحث في الماهية الإنسانية، ويهمنا هنا رؤية الإمام التي تؤسس لمفهوم (التعلم) ووصله بحقيقة الإيمان من جهة، وتعلقه بماهية الإنسان من الجهة الأخرى، فجوهر ماهية الإنسان لا يتحقق إلا بالإيمان؛ هذا هو التأسيس الكلي والمركزي لرؤية الإمام النورسي على امتداد رسائل النور، «فالإيمان هو ما يجعل الإنسان إنسانًا حقًّا، بل يجعله سلطانًا، … وإن الكفر يحول الإنسان لمحض حيوان مفترس في غاية العجز».(النورسي،155:2012)

ويشير الإمام النورسي إلى أن الفرق بين مجيء الحيوان والإنسان إلى الدنيا؛ ينطوي على إشارة ودلالة فحواها أن الإنسانية إنما تكون بالإيمان إنسانية حقة، ذلك أن الحيوان حين يأتي إلى الدنيا لأول عهده يأتي مكتملًا حسب استعداده وكأنه قد اكتمل في عالم آخر، أي يرسل فيتعلم في بعض وقت قوانينَ حياته وشرائط تكيفه، فالقدرة الحياتية والملكة العملية التي يكتسبها الإنسان في عقدين يتحصل عليها ويُلهمها حيوان كالعصفور والنحلة في عشرين يوما».(النورسي،155:2012)

ويخلص الإمام النورسي قائلًا : « إذن فوظيفة الحيوان الأصلية ليست هي التكمل بالتعلم ولا الترقي بكسب المعرفة ولا الاستمداد والدعاء بإظهار عجزه، بل وظيفته السعي والعمل حسب استعداده والعبودية الفعلية «

في مقابل هذا فإن « وظيفة الإنسان الفطرية هي التكمل بالتعلم والعبودية بالدعاء «(النورسي،156:2012) ويزداد الأمر وضوحا عند الإمام النورسي إذ يقول :

« فالإنسان جاء إلى هذا العالم للتكمل بواسطة العلم والدعاء، وكل شيء مرتبط بالعلم من حيث الماهية والاستعداد، وإن أساس كل العلوم الحقيقية ومعدنها ونورها وروحها هو معرفة الله، وأُس أساس تلك المعرفة هو الإيمان بالله».(النورسي،156:2012)

2- غاية علوم الكون هي الترقي بالإنسان باتجاه تجلي أسماء الله تعالى:  

يشير الإمام النورسي إلى أن المقصد الأعلى لوجود هذا الكون هو عبودية الإنسان الكلية تجاه تجلي الربوبية، وإن غاية الإنسان القصوى هي البلوغ إلى تلك العبودية، التي يستلزم التحقق بها على وجهها الأتم أن يحوز الإنسان طرفا من تلك العلوم والكمالات.(النورسي،134:2009)

في منحي تأملي بديعٍ وغير مسبوق في ثنايا الآية من سورة البقرة ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ (القرآن الكريم،1/31) يشير الإمام النورسي إلى أن ما ناله الإنسان وتوصل إليه من حيث شمول استعداداته من جميع الكمالات العلمية والتقدم الفني والعلمي وخوارق وإبداع الصناعة بعنوان « تعليم الأسماء « رمزٌ عالٍ كالآتي : «إن لكل كمال وعلم وتقدم ورقي وفن وعلوم حقيقة عالية، وإن تلك الحقيقة تستند إلى اسم من الأسماء الإلهية، فذلك العلم والفن والعلوم وتلك الكمالات والصناعة تجد كمالها وتكون حقيقة باستنادها إلى ذلك الاسم الذي له حجب كثيرة وتجليات متنوعة ودوائر مختلفة، وإلا فهي ظل ناقص مبتور غير مكتمل «.  (النورسي،132:2012)

هكذا تتراءى التجليات الحكيمة لأسماء الله (العدل) و (المقدر) في مرآة  الهندسة، ومشاهدة التجليات الرحيمة للاسم (الحكيم) و (الشافي) في علم الطب، وهكذا يستطيع الإنسان الارتقاء إلى سماوات الحكمة الإلهية بجعل تلك العلوم والمعارف سلمًا للعروج والارتقاء إلى الأسماء الربانية التي هي حقائق ومنابع العلوم والكمالات.

ويقرر النورسي « أن الإنسان سينصب حتمًا على العلوم والفنون في آخر أيامه، وسيستمد كل قوته من العلم، أما الحكم والقوة فسيكون زمامهما بيد العلم «.(النورسي،136:2012)

3- كل علم من علوم الكون يتحدث عن الله دومًا بلسانه الخاص:

عندما زار طائفة من تلاميذ المدارس الحديثة الثانوية الإمام النورسي قائلين له: عَرِّفنا بخالقنا؛ لأن معلمينا لا يتحدثون عن الله! أجابهم بأن كل علم من العلوم التي تدرسونها يتحدث عن الله دومًا بلسانه الخاص ويُعرِّفه، فأصغوا إليها، لا إلى المعلمين، فكل علم من مئات العلوم التي تدرسونها يُعرِّف الخالق ذا الجلال لهذا الكون ويتحدث عن الله دومًا بلسانه الخاص، ويُعرِّف صفاته وأسمائه وكمالاته بميزانه الواسع ومرآته الخاصة به. (النورسي،19:2009)

ويسرد الإمام النورسي  طائفة من العلوم الحديثة وهي تؤكد ما ذكره أعلاه، « فمثلا: كما أن صيدلية بديعة تحتوي على قوارير، في كل منها مستحضرات كيمياوية وترياقات حيوية، قد أُخِذت بموازين خارقة وحسَّاسة، لا شك أنها تدل على صيدلاني ماهر وكيميائي وحكيم؛ فكذلك صيدلية الكرة الأرضية تُرِي -حتى للعيون العمياء- الحكيمَ ذا الجلال الذي هو صيدليُّها، وتعرِّفه حسب علم الطب الذي تدرسونه بنسبة بداعتها وضخامتها أكثر بكثير من الصيدلية الموجودة في السوق من حيث ما فيها من أربعمائة ألف نوع من المستحضرات والأدوية الحيوية الموجودة في قناني النباتات والحيوانات» .(النورسي،17:2009)

هكذا يعدد الإمام النورسي طائفة من العلوم، ويقدم لهؤلاء الطلاب رؤيته حول توظيف هذه العلوم الحديثة لتكون مرقاة لهم في مراقي الإيمان بالله ، وكيف ينظرون فيستفيدون من علوم ومعارف كعلوم الصيدلة والطب والهندسة والآلات والحساب وغير ذلك، وربط تلك العلوم بالمنبع الأصيل ألا وهو القرآن المعجز البيان، الذي يُرف لنا خالقنا مرارًا وتكرارًا في أكثر الأحيان بآياته : ﴿ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ و ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ ليدرس هذه الحجة المذكورة التي هي برهان وحدانية عظيمة باهرة. (النورسي،20:2009)

لعلك تلحظ أن الإمام النورسي لم يقلل لهم من نجاعة ونفع هذه العلوم فضلًا عن زجرهم عن دراستها فيقول لهم: لا تدرسوا هذه العلوم إنها تضلكم، وذلك على الرغم من أن هذه العلوم الحديثة ووفق سياقات تاريخية ومجتمعية كثيرا ما أُريد لها أن تكون أداة لإنكار وجود الخالق وسوق الناشئة بعيدًا عن الإيمان بالله وبالغيب.

إن هذا الموقف الذي مثل درسًا قدسيًا سجله النورسي في مؤلفه «عصا موسى»؛ إذ يقدم النصح لمجموعة من تلاميذ المدارس الحديثة أتوا إليه، يسألونه عن دراستهم للعلوم والمعارف الحديثة وهم يرون أنها توظف لتقذف بهم بعيدًا عن دوحة الإيمان، وما سمعوه منه من قول جعلهم يشكرون الله، هذا الموقف يجعلنا ننتقل برفق باتجاه عرض رؤية الإمام النورسي حول مدرسة الزهراء.

ثانيًا: مدرسة الزهراء أو فكرة الجمع بين تعليم علوم الشرع والكون

طرح الإمام النورسي فكرة مدرسة الزهراء في مرحلةٍ باكرةٍ عبر حوارات قديمة ليست مع الطلاب هذه المرة، ولكن مع أعيان العشائر، وهي مسطورة في «المكتوبات» فيما يعرف بالمناظرات، وقد تضمنت الإشارة إلى فكرة الإمام النورسي المسماة «مدرسة الزهراء».  (النورسي،435:2013)

ظل واحدا من المشروعات المبكرة للإمام النورسي  تأسيس جامعة أو مدرسة عليا باسم مدرسة الزهراء، تكون شقيقة لجامعة الأزهر، وتتضمن داراً للعلوم، وقد وضع لها من الشروط والأسس ما يحقق مزجها لتدريس العلوم الحديثة بعلوم المدارس الأهلية الدينية، وعندما سئل عن الحكمة في دعوته لهذا المزج كان جوابه: «إن في ذلك المنحى إنقاذ الفكر من ظلم السفسطة الذي يحصل من أربعة قياسات فاسدة* وإزالة مغالطة الملكة الفلسفية للتقليد الطفولي”.(النورسي،436:2013)

 إن وضوح وسداد رؤية النورسي في المزج والجمع بين علوم الدين وعلوم الكون تبدو في رؤيته أن ضياء الوجدان كامن في العلوم الدينية، ونور العقل تشع به العلوم الحديثة، فبامتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبهذين الجناحين تحلق همة الطالب، وإذا افترقا يتولد التعصب في الأول، والحيل والشبهات في الثاني».(النورسي،439:2013)

وما جاء على ذكره الإمام النورسي من نشوء الاعتلال إفراطًا وتفريطًا بين حدي الجناحين في حال اختلال الموازنة في الجمع والمزج بين تعليم علوم الدين والكون، يبدو ماثلاً اليوم في أكثر من مجتمع من مجتمعات المسلمين، بينما ظل هدف الإمام النورسي فتح طريقٍ لإدخال العلوم الحديثة في المدارس، وفتح منبعٍ صافٍ للعلوم لا يبغضه أهل المدارس، وكان مقصده الأسمى أن يتصالح أهل المدارس الدينية وأهل المدارس الحديثة وأهل التكايا والزوايا، حتى يتحدوا على الأقل في المقصد بالتمايل والتبادل الفكري.

ويُبدي الإمام النورسي أسفه بأن أصحاب الطوائف الثلاثة دفعهم تباين أفكارهم كما فرق الاتحاد من ناحية، فإن اختلاف مناهجهم هو الآخر أوقف الرقي والتقدم من الناحية الأخرى؛ لأن كل واحد منهم تعصب لمسلكه وأفرط أو فرّط بسبب نظره السطحي إلى مسالك الآخرين، فنسب هذا ذاك إلى الضلال ونسب ذاك هذا إلى الجهل.

يُشير الإمام إلى أن مجمل المشهد يبدو تمثيلاً كما لو “ ان الإسلام لو تجسد خارجًا لظهر في صورة قصرٍ مشيد منور، أحد منازله مدرسة حديثة، وإحدى غرفه مدرسة دينية، وصالته مجمع الكل، كمجلس شورى يكمل أحدهم نقص الآخر، فإن هذه المدرسة الزهراء تجسد ذلك القصر الإلهي كما أن المرآة تمثل الشمس حسب قابليتها “.(النورسي،439:2013)

وكما هو مفهوم جليا من هذه العبارات  والظاهر في منهج الإمام النورسي في مؤلفاته، أن النورسي درس كل العلوم الكونية، ووقف على أفكار الفلسفة، كما تعمق في العلوم الشرعية، وعقد مقارنات بيْنهما، ومضى من بعد ذلك ليبيّن ما هو المفيد منها للبشرية والموافق للمقدسات والتعاليم الدينية، ومحذرًا مما هو ضار ومنافٍ للمبادئ الإيمانية والأخلاقية.

ثالثًا: تجربة طلاب رسائل النور في الجمع بين تعليم علوم الشرع والكون

الحالةُ العامةُ في حقول التربية والتعليم تُشير إلى أن العالم الإسلامي يتأرجح بين درجة من التطرف باتجاه التفريط حينًا والإفراط في أحايين أخرى، حيث إن هنالك كثيرا من البلدان والمجتمعات الإسلامية تبنت المناهج الغربية وطرائقها التربوية في حقل التعليم بالكلية، والمؤلم أن مكونات هذه المجتمعات من المعلمين والمثقفين مع انتمائهم للإسلام؛ يحسبون أن كل ما يأتي به الغربيون صحيحا، ومن ثم يأخذونه دون رد، بل يعدونه خارج دائرة الفحص والتمحيص والتقصي عن أسسه وحقائقه ومراميه، وهذا المنحى هو ما أطلق عليه الإمام النورسي « تقليدًا طفوليًّا «.

وليت الأمر وقف عند هذا؛ بل تدرج الأمر رويدًا رويدًا حتى أضحت التعاليم والنصوص الدينية لدى الكثيرين منهم بمنزلة شيء ثانوي غير جدير بالاهتمام، وغدا التمسك بالمنهج الغربي والنظريات العلمية هو الأساس الذي يُعد في نظرهم أقوى من النصوص المقدسة والتعاليم الشرعية، ففي حين تجد المرء منهم يناقش ويجادل حول النصوص الدينية، متناولًا إياها بالنقد والانتقاص منها ومن مكانتها؛ تجده في الوقت ذاته يقف موقف الانبهار، ولا يسمح بمناقشة النظريات الوضعية التي نادى بها فيلسوف غربي.

وأصبح الإسلام موسومًا عندهم بالتخلف والرجعية، وكل ما ياتي من الغرب يمثل عنوانًا وسمةً للتقدم والتطور، ولم يلبث أن وقرَّ في الأذهان أن الدين هو عمود التأخر والتخلف، وتركه والتخلص منه هو النواة الحقيقية للنهضة والخطوة الأولى باتجاه التطور والنماء، وانتهى الأمر بفئة من الناس في تلك المجتمعات في السنوات الأخيرة تطرفًا إلى الوصول إلى مظان الإلحاد، فغدا من المعتاد أن تجد البعض ينحدر من أسرة مسلمة ذات جذور ممتدة في التدين ويحمل اسمًا إسلاميًّا أصيلًا لكنك تفاجأ بأنه يتخذ موقف الإنكار حيال كأفة النصوص المقدسة والغيبيات.

على الضفة الأخرى حيث ينهض موقف الإفراط، فقد حرّم بعض المسلمين كل ماجاء من الغرب من علوم ونظريات، وحُظِر على أبناء المسلمين الالتحاق بالمدارس والجامعات الحديثة؛ أي تلك التي تعتمد بالكلية تدريس العلوم والنظريات الحديثة، وقد تحدث الإمام النورسي واصفًا هذه العلوم والتطورات في الصنائع والفنون بأنها ملك لنوع البشر كافة كأي منتج يستفاد من نافعه ويترك ضاره، وبين أيدينا محك- القرآن الكريم والسنة النبوية –  نضرب عليه فنستفيد مما هو صالح ونرفض ماهو ضار ومتعارض مع مبادئنا التي علمنا إياها ديننا.

لقد قال الامام النورسي : «ممكن أن يحمل الكافر صفات مسلمة وممكن أن يحمل المسلم صفات كافرة»، فمثلا الكذب صفة كافرة والصدق صفة مسلمة، وقد نجد كافرا صادقا ومسلما كاذبا، فلذلك علينا أن نتعامل حسب قواعد معينة فكما أننا نتعامل مع الشخص حسب صفاته كذلك تعاملنا مع العلوم يكون حسب ما ينفعنا منها وما يضر؛ فإن وافقت الفكرة ديننا أخذناها وإن عارضت تركناها، فالعلوم ليس فيها ضرر في حد ذاتها؛ ما لم تشوبها الأفكار الباطلة التي تغير حقائقها وتنسبها للطبيعة مؤلهة إياها.

وفق هذا السياق أود أن أعرض هنا بعض النماذج والتجارب الموصولة بهذا الأمر، أرجو أن أوفق في ذكر خلاصات تُعين في استجلاء الموقف الوسطي:

النموذج الأول:

 وفيه إشارة إلى ما يسمى بالمدارس الأهلية أو المدارس الشرعية، وهي منتشرة في كثير من البلدان الإسلامية وعلى نحو خاص بلاد ومجتمعات غرب إفريقيا، وهي تسجل حضوراً وانتشاراً في هذه المجتمعات بسبب رفض المسلمين لاعتماد المدراس الحكومية في مناهجها وطرائقها التربوية على العلوم الحديثة وفق منظور الفلسفة الغربية، إذ يتحسب المسلمون من انحراف أولادهم ووقوعهم في براثن العماية والضلال، فأسسوا المدارس الأهلية، وحرموا على أولادهم تعلم العلوم الكونية الحديثة.

أدى هذا إلى عدم انتساب المتخرجين في هذه المدارس إلى الحياة الاجتماعية بشكل ظاهر، ومن ثم لم يجدوا فرصة للتوظيف في الوظائف العامة والانخراط في مناصب الدولة، ولم يعد من سبيل أمام الشباب الذين تخرجوا في هذه المدارس سوى التوظيف في سلك التدريس في هذه المدارس الأهلية، أو الاتجاه لفتح مدارس جديدة على ذات النسق ليلتحق بها طلاب جدد، لتدور بهم الدائرة على ذات النحو.

وهكذا يمضي الأمر على هذا المنوال ليرسخ حالةً من التهميش لدى شباب وأبناء المسلمين في تلك المجتمعات، وهو أمر لا نستبعد أن يكون تطوره وسيرورته وفق هذا المنحى يجيء قصداً وتخطيطاً من قبل بعض الجهات التي تريد أن تكرس لحالة التهميش تلك، إذ ما يزال هنالك شيوخ ومؤسسات تجتهد في منع الشباب المسلمين في هذه المجتمعات من الالتحاق بالمدارس الحديثة.

كذلك ينبغي الإشارة إلى أن هذا التطرف يتسبب في إنتاج عامل آخر، ألا وهو العطالة فالاحباط عند الشباب المسلمين ما يجعلهم أقرب إلى اتجاه الالتحاق بالحركات العنيفة والمسلحة.

النموذج الثاني:

وهذا النموذج ماثل في مدارس الأئمة والخطباء بتركيا، وهي مدارس حكومية تُعنى بتدريس سائر العلوم والمعارف المضمنة في مقررات الدراسة بالمدارس الحكومية، بيد أنه يضاف إليها طائفة من المقررات الدراسية الدينية. 

على هذا النحو فإذا كان الطالب في غير مدارس الأئمة والخطباء يدرس خمس  حصص في اليوم الدراسي، فإنه في مدارس الأئمة والخطباء يدرس ثماني حصص في اليوم الدراسي الواحد، فيدرس الطالب مقررات في القرآن الكريم والتفسير واللغة العربية والفقه وغيرها.

وحسب ميول الطالب يمكنه أن يتجه نحو المساق العلمي أو الأدبي، ويحدث ذلك دون أن يتخلى عن المقررات الإسلامية وغيرها من المواد، ولهذا فإن شهادة هذه المدارس تتيح للخريجين فيها أن ينافسوا الآخرين في امتحان القبول للجامعة حسب المجال الذي درس (علمي أو أدبي)، ومن ثم يمكنه أن يدرس الهندسة أو الطب أو العلاقات الدولية أو الآداب والتربية وسائر المجالات والحقول دونما استثناء، ومما يجدر ذكره هنا أن الذين تخرجوا في مدارس الأئمة والخطباء أتيحت لهم فرص الانخراط في المجتمع وتولوا طائفة من المناصب والمسؤوليات.

النموذج الثالث:

النموذج الثالث ويمثله تجربة وقف الخيرات الذي اتخذ منهج رسائل النور في تربية المجتمع، إذ قام الوقف بدور متميز في هذا المجال، حيث إنه سعى إلى افتتاح بيوت قريبة من المدارس والجامعات وجعلها سكنا للطلاب، وحثهم على الالتحاق بالمدارس الحكومية والجامعات والكليات المختلفة.

وما تزال تعزيز التربية الإيمانية في هذه البيوت ماضية، إذ يتم مناقشة كل الأفكار والرؤى التي تحتشد بها المقررات الدراسية في تلك المدارس والجامعات عبر رسائل النور، وتقدم الإجابات والحلول الشافية للقضايا المختلفة، وبهذا يجد الطالب في المدرسة والجامعة العلوم بنظر الفلسفة الغربية، ويرى كيف يتم تبلور فكرة الإلحاد شيئا فشيئا، وكيف تدس في الأذهان هذه العلوم وفق مرامي فلسفية معينة، ثم ما إن يؤوب إلى سكنه فيجد في بيوت طلاب رسائل النور أجوبة عن كل ذلك، فتنمو قدراته على مناقشة مثل هذا المواضيع ويحافظ على إيمانه وينقذ إيمان الآخرين من الخطر.

وعندما يتخرج ويلتحق بالمجتمع يكون عضوًا نافعاً؛ طبيباً مسلماً أو مهندسًا مسلماً أو اقتصادياً مسلماً أو سياسياً مسلماً ونحو ذلك، حيث ألم بعلمه المختص وفي الوقت ذاته عرف فكرة الأعداء بكل تفاصيلها، ومن أي باب يدخلون وكيف يكون الرد عليهم وإبطال دعاويهم.

بدأ وقف الخيرات وطلاب رسائل النور للإمام النورسي هذا المشروع قبل مبادرة الدولة بفتح مدارس الائمة والخطباء، وعندما بدأ مشروع مدرسة الائمة والخطباء أشار الإمام النورسي إلى  طلابه بفتح بيوت نورانية لطلاب النور بقرب كل مدرسة للأئمة والخطباء لانها جاءت موافقةً لأفكار الإمام وما ينوي فعله، وكان يُضاف الجانب التربوي في هذه البيوت لطلاب الأئمة والخطباء.

وفق هذا السياق فإنني أخلص إلى التوصية بالآتي:

1- دعوة الباحثين والدارسين لمزيد من دراسة أطروحة ورؤية الإمام النورسي في الجمع بين تدريس العلوم الدينية والعلوم الحديثة والمزج بينهما باعتبارهما جناحين يترافقان في النهوض بالأمة في اتجاه ترسيخ الإيمان وتعزيز المعارف العقلية.

2- الوقوف على تجربة مدارس الأئمة والخطباء بتركيا، والاستفادة منها في فتح مسار للتعليم يحقق للذين يدرسون العلوم الشرعية ذات الفرص التي ينالها دارسو العلوم الحديثة في الترقي العلمي أو الوظائف المجتمعية.

3- الاهتمام بدراسة تجربة وقف الخيرات في إنشاء البيوت النورانية لرفد المجتمع بشبابٍ راسخ في إيمانه وقادر على مواجهة الأفكار الهدامة.

المراجع:

u  القرآن الكريم

1- النورسي، المكتوبات، ترجمة مركز الترجمة والبحوث العلمية بمؤسسة آلتين باشاق التركية، دار السنابل الذهبية، القاهرة، الطبعة الأولى، 2013م.

2- النورسي، ذو الفقار، ترجمة مركز الترجمة والبحوث العلمية بمؤسسة آلتين باشاق التركية، دار السنابل الذهبية، القاهرة، الطبعة الأولى، 2009م.

3- النورسي، عصا موسى، ترجمة مركز الترجمة والبحوث العلمية بمؤسسة آلتين باشاق التركية، دار السنابل الذهبية، القاهرة، الطبعة الأولى، 2012م.

4- النورسي، الكلمات، ترجمة مركز الترجمة والبحوث العلمية بمؤسسة آلتين باشاق التركية، دار السنابل الذهبية، القاهرة، الطبعة الثانية، 2012م.