على كورت
المستخلص
تُعنى هذه المقالة بالتعريف بجوانب وملامح من سيرة الإمام المجدد بديع الزمان سعيد النورسي، وبيان طرفاً من جهاده من أجل إنقاذ الإيمان، وتجيء المقالة على ذكر جهود الإمام في خدمة رسائل النور. والمقالة وفق توسلها بمنهج بحثي تاريخي يدقق في الوقائع توصيفاً وتفسيراً وتحليلاً؛ فهي تستند بصورة أساسية إلى ما خطه الإمام النورسي في رسائل النور بجانب شهادات معاصريه ممن عاشوا تلك الوقائع من تلاميذه الأوفياء وفي مقدمتهم الأستاذ أحمد خسرو.
استهلت المقالة مباحثها الأربعة بتقديم موجزٍ لسيرة الإمام النورسي، ومن ثم تطرقت لجهوده الدؤوبة للإرشاد والدعوة ابتغاء خير أمته، وتأليفه لرسائل النور وجهاده مع طلابه لنشر تلك الرسائل وما لاقاه من تعسف وظلم في سبيل ذلك من قبل التيارات المعادية للإسلام، ويقدم المقال تعريفاً برسائل النور وما تتفرد به بحسبانها تفسير معنوي للقرآن الكريم، ويضيء ملمحاً من سماتها العامة بالإفاضة في كونها درس قوي في علم الكلام.
تناولت المقالة الإبانة عن الوظيفة التجديدية للإمام النورسي وما ناله ونالته رسائل النور بتقديمهما للقرآن الكريم بأسلوب يناسب ويلائم فهم وإدراك هذا العصر؛ فحازا شرف التجديد الذي قوبل بالقبول بين علماء الأمة.
يجيء المقال على الإشارة إلى انتشار دعوة رسائل النور، وبيان مسيرة الدعوة بعد رحيل الإمام، وما سار عليه الأستاذ أحمد خسرو مؤسس وقف الخيرات في النهوض والمضي بالدعوة بعد وفاة الإمام بديع الزمان النورسي مستقيماً بلا حيدة عن مسلك رسائل النور ودون تحريف أو تخريب للميراث المعنوي للإمام بديع الزمان، ويتناول المقال كذلك طرفاً من سيرة ومسيرة ومجهودات المرشد الثالث لطلاب رسائل النور الأستاذ سعيد نوري أدام الله فضله.
الكلمات المفتاحية: الإمام النورسي، السيرة، خدمة رسائل النور.
* نُقل هذا المقال من أصله في اللغة التركية.
المبحث الأول
السيرة الذاتية للإمام بديع الزمان سعيد النورسي
ولد الإمام بديع الزمان سعيد النورسي في قرية “ نُوْرس” التابعة لمحافظة “ خيزان” من ولاية “ بتليس” عام 1293هـ / 1877م شرقي تركيا، وعند بلوغه التاسعة من عمره انتقل لتلقي دراسته الأولى على يد أخيه الكبير المُلاَّ عبد الله، حينها وإبان دراسته القصيرة عند العلماء الكرام وفي المدارس المختلفة في شرق البلاد استرعي الانتباه إليه بما اتصف به من قوة الذاكرة واتقاد ذكاء، فكان أن لقّبه أستاذه الملا فتح الله بـ”بديع الزمان”، وسرعان ما وجد هذا اللقب قبولًا عند جميع العلماء؛ فجعل الناس يُسلمون بنبوغه وتفوقه العلمي؛ وأكمل كأفة القراءات العلمية المقررة وفق منهج العلماء العثمانيين يومئذٍ خلال فترة وجيزة لم تزد عن الثلاثة أشهر، وتفوق في امتحانات أساتذته وفي المناقشات العلمية التي شارك فيها.(المجموعة،43:2013)
أنفق الإمام بديع الزمان شبابه مشتغلًا فيه بالعلم والرياضة الروحية؛ متجولًا في عدد من المراكز العلمية الكثيرة كبتليس وشروان وسعرد وتيللو وماردين، مجالسًا لطائفة من أشهر علماء العصر، وأتم في تلك الفترة حفظ تسعين مجلدًا في مختلف العلوم كالصرف والنحو والمنطق والتفسير وعلم الكلام، ولكثرة الكتب التي حفظها لم يكن ليستطيع مراجعتها في أقل من ثلاثة أشهر وبتخصيص ما لا يقل عن ثلاث ساعات يوميًا لهذا الغرض،
استقر بولاية «وان» بدعوة من واليها، وفي هذه الفترة التي كان يلتقي فيها بالوالي حسن باشا ورجال الدولة، وأدرك أهمية وضرورة العلوم الحديثة لتبليغ الإسلام ونهضة أمته؛ فأخذ في الإحاطة بتلك العلوم بجهده الشخصي فألم في فترة قصيرة بعلوم الرياضيات، والجيولوجيا، والفيزياء، والكيمياء، وعلم الفلك، والتاريخ، والجغرافيا، والفلسفة. (المجموعة،82:2013)
طوال المدة التي أقام فيها في “وان” التي قاربت خمس عشرة سنة اشتغل بالتدريس وإرشاد العشائر، وأُشتهرت له مدرسة خاصة كانت تسمى «خُرخر».
في أثناء وجوده في قصر الوالي طاهر باشا قرأ نبأ في الجريدة أحدث انقلابًا في حياته؛ حيث إن وزير المستعمرات البريطاني غلادستون قال مشيرًا إلى مصحف بيده: «ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، فلنسعَ إلى نزعه منهم أو إبعادهم عنه مهما كان الثمن».
وكان لهذا النبأ تأثير بالغ في روح الأستاذ فأخذ عهدًا على نفسه قائلًا: « لأبرهننّ ولأُظهرنّ للعالم أجمع أن القرآن شمس معنوية لا تخمد، ولا يمكن إخمادها « ومن حينها ظلت هذه هي قضيته التي أوقف حياته لإثباتها وخدمتها.
تنبه الإمام النورسي منذ مرحلةباكرةلخطط الأعداء الداخلية والخارجية لإسقاط الدولة العثمانية، ومن ثَمَّ محو الإسلام؛ فكانت دعوته لنشر التعليم القوي كترياق وواق ضد تلك المؤامرات، التعليم الذي يلبِّي متطلبات العصر الراهن.
ومن هذا المنطلق طرح الإمام بديع الزمان فكرة ضرورة تأسيس الجامعة الإسلامية في شرق تركيا التي أَطلَق عليها اسم “مدرسة الزهراء”، التي وصفها بأنها ستكون أختًا لجامعة الأزهر، فأتى إلى إستانبول لتحقيق فكرته هذه، وقد أجرى له السلطان – بواسطة وزير الداخلية – مرتَّبًا شهريًّا وإحسانات عظيمة، إلا أنه رفض ذلك؛ إذ إنه لم يكن يريد أية منفعة شخصية، بل كان يريد أن يساعدوه في تأسيس جامعته “مدرسة الزهراء” التي تدرَّس فيها العلوم الدينية وعلوم المدنية الحاضرة معًا، لكن لم يُعِر أحد اهتمامًا لفكرته
وعندما لم ينجح في حصوله على دعم الدولة فضَّل وآثر أن يبقى في إستانبول – مركز الخلافة الإسلامية – وأن يخدم الدين بواسطة السياسة بدلًا من أن يرجع إلى بلده مرة أخرى، وكتب مقالات في الصحف، وقابل شخصيات من السياسيين ونصحهم، وكان له دور بارز في تهدئة الجماهير في اجتماعاتهم ومظاهراتهم، وأسَّس جمعية “الاتحاد المحمَّدي” مع أصدقائه بعد إعلان المشروطية، وتوسعت دائرة هذه الجمعية في وقت وجيز، حتى إن خمسين ألف شخص قد انضموا إلى هذه الجمعية في مدينَتَي “آدا بازاري” و“إزميت” وما حواليهما بسبب مقالة واحدة له.
المحكمة العسكرية العرفية
وفي أثناء تلك المدة وقعت حادثة تظاهرات شهيرة عُرِفت بحادثة (31 مارس)، فاعتُقِل الإمام بديع الزمان على إثرها ظنًّا منهم أن له علاقةً بهذه الحادثة، وسيق إلى المحكمة العسكرية، على الرغم من أنه قام بنشاطات جادة مُهدئة للجوِّ قبل وقوع هذه الحادثة، ودافع بجرأة شديدة ومنقطعة النظير عن نفسه في تلك المحكمة التي نال فيها البراءة.
وبعد هذه الأحداث غادر “إستانبول” وذهب إلى “تفليس” عن طريق “باطوم” وبعدها إلى “وان”، وتجول بين العشائر وسعى لإرشادها بالدروس العلمية والاجتماعية والمدنية، وقد جُمِعت كلماته ودروسه التي ألقاها على العشائر فيما بعد في كتاب اسمه “المناظرات”.
ثم انتقل من “وان” إلى “دمشق”، وبإلحاح من علماء “دمشق” ألقى خطبة في “الجامع الأموي” واستمع إليها حوالي عشرة آلاف شخص، بينهم ما يقرب من مائة عالم، وقد نالت هذه الخطبة القبول والاستحسان والتقدير بصورة فائقة على غير المعتاد، وطبعت فيما بعد باسم “الخطبة الشامية”، ثم انتقل من “الشام” إلى “بيروت” ثم رجع إلى “إستانبول”.
رافق الأستاذُ “السلطانَ رشاد” في أثناء سفره إلى “روم ألي”بصفته ممثل الولايات الشرقية، وأفصح عن فكرته حول “مدرسة الزهراء” لـ“السلطان رشاد”، فوافقه في الرأي، ووضع الإمام بديع الزمان حجر الأساس لـ“مدرسة الزهراء” في منطقة “أدْرميت” على ضفاف بحيرة “وان”؛ إلا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى حال دون إكمال المشروع مع الأسف.
مدرسة الزهراء
إن الحلّ – من وجهة نظر الإمام بديع الزمان – حيال تخطيطات الأعداء الداخلية والخارجية لإسقاط الدولة العثمانية، ومن ثَمَّ لمحو الإسلام؛ هو نشر التعليم القوي الذي يلبِّي متطلبات العصر الراهن، والذي يتخذ اتفاق القلب والعقل أساسًا له، ويجعل المسلمين يتفوقون على الغرب فكرًا وعلمًا، وكان يرى – رحمه الله – أن ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الحديثة، فبامتزاجهما تتجلّى الحقيقة، فتتربّى همة الطالب، وتعلو بكلا الجناحين، وبافتراقهما يتولَّد التعصب في الأولى، والحيل والشبهات في الثانية.(النورسي،436:2013)
ومن هذا المنطلق طرح الإمام بديع الزمان فكرة ضرورة تأسيس الجامعة الإسلامية في شرق تركيا التي أَطلَق عليها اسم “مدرسة الزهراء”، التي وصفها بأنها ستكون أختًا لجامعة الأزهر، فأتى إلى إستانبول لتحقيق فكرته هذه، وأعلنت الجرائد والصحف آنذاك لقرائها عن مجيئه قائلةً: “إنه طلع في آفاق إستانبول شعلة ذكاء تُعدّ من نوادر الخلقة، إنَّه “سعيد النورسي” ذلك الرجل الذي طلع كالشمس من ذروة جبال الشرق الشاهقة ”.
والأستاذ نفسه علّق لوحة على باب غرفته في “خَان الشَّكَرْجِي” الذي أقام فيه في حي الفاتح، وكتب فيها: “هنا تُحَلّ كل مشكلة، ويجاب عن كل سؤال، ولا يُسألُ أحدٌ سؤالا”، وبالفعل أجاب عن أسئلة علماء إستانبول الذين وصلت إليهم شهرته، وبلغهم صِيته، وجاءوا لزيارته متلهّفين، وكان قصده في ذلك أن يلفت نظر مركز الخلافة إلى أهل شرق تركيا، وأن يجد دعمًا للمدرسة الزهراء التي كان يخطط لتأسيسها في مدينة “وان” أو مدينة “ديار بكر”.
إن الإمام بديع الزمان الذي كان يرى الحل الوحيد للتخلص من الدوامة التي تدور فيها الدولة العثمانية هو في الدراسة القوية، وكان يرى مثل هذه الخدمة التي تجعل أبناء هذه الدولة النبيلة – التي قامت بوظيفة حامل لواء الإسلام خلال العصور الماضية – يعودون إلى قيمهم من جديد؛ أساسًا لحياته.
وقد أجرى له السلطان – بواسطة وزير الداخلية – مرتَّبًا شهريًّا وإحسانات عظيمة، إلا أنه رفض ذلك؛ إذ إنه لم يكن يريد أية منفعة شخصية، بل كان يريد أن يساعدوه في تأسيس جامعته “مدرسة الزهراء” التي تدرَّس فيها العلوم الدينية وعلوم المدنية الحاضرة معًا، لكن لم يُعِر أحد لفكرته اهتمامًا.
ثم إن الأستاذ المحترم الذي لم يجد الدعم الذي يريده من الدولة التي تأثرت كثيرًا بأحوال العالم الذي أصبح مشهدًا للمؤامرات القبيحة للعالَم الغربي في أوائل القرن العشرين؛ فضَّل وآثر أن يبقى في إستانبول – مركز الخلافة الإسلامية – وأن يخدم الدين بواسطة السياسة بدلًا من أن يرجع إلى بلده مرة أخرى، وكتب مقالات في الصحف، وقابل شخصيات من السياسيين ونصحهم، وكان له دور بارز في تهدئة الجماهير في اجتماعاتهم ومظاهراتهم، وأسَّس جمعية “الاتحاد المحمَّدي” مع أصدقائه بعد إعلان المشروطية، وتوسعت دائرة هذه الجمعية في وقت وجيز، حتى إن خمسين ألف شخص قد انضموا إلى هذه الجمعية في مدينَتَي “آدا بازاري” و“إزميت” وما حواليهما بسبب مقالة واحدة له.
سنوات الحرب والأسر
شارك الأستاذ بديع الزمان – رحمه الله – في الحرب العالمية الأولى قائدًا لكتيبة كوَّنها من طلابه، ودافع عن شرق البلاد ضدّ الروس والأرمن، وفي أثناء الحرب وفي الخندق وتحت مطر من الرصاص وقربه الشديد من الشهادة، وفي ظروف لا يمكن فيها التأليف ألّف كتاب “إشارات الإعجاز” – الذي يُعدُّ من روائع علم التفسير – بعناية إلهية وفي صورة سنوحات قلبية. (المجموعة،183:2013)
وفي أثناء احتلال الروس لمدينة “بتليس” أُسر مصابًا بالجروح، ثم سيق إلى “سيبريا”، وظلَّ في الأسر هناك لمدة سنتين ونصف.
العودة إلى استانبول
وبعد قضائه اكثر من عامين تمكّن من الفرار، وعاد إلى إستانبول عن طريق “بيترس بورج” و“وارسوا” و“فيينا” بتاريخ 25 يونيو 1918م، وزاره كثيرون من الشعب والجيش وأركان الدولة، ولم يتركوه وحيدًا.
وبعد عودته فوجئ الإمام بديع الزمان بتعيينه عضوًا في “دار الحكمة الإسلامية” التي هي بمنزلة دار الإفتاء حاليًا والتي تجمع تحت سقفها كبار العلماء في الدولة العثمانية آنذاك.
خرجت الدولة العثمانية من الحرب العالمية الأولى مهزومة، ولم يمض وقت طويل حتى بدأ الإنجليز والفرنسيون والإيطاليون واليونان في احتلال أراضي الدولة العثمانية، وإزاء هذا بدأت نشاطات حرب التحرير في كل أنحاء تركيا، وقام الإمام بديع الزمان بأعمال ضدّ الإنجليز في السنوات التي احتل فيها الإنجليز العاصمة “إستانبول”، وشجّع ودعم حركة “القوى المليّة” القائمة ضد المحتلين في جميع أنحاء تركيا.
وقد استحسنت حكومة “أنقرة” نشاطات الإمام بديع الزمان، ودعته إلى “أنقرة”، وبناءً على هذه الدعوة رحل الإمام بديع الزمان إلى “أنقرة”، فاستُقبِل استقبالًا حارًّا فيها، وأقيم له حفل استقبال رسمي في مجلس الشعب، إلا أن الإمام بديع الزمان لم ترضه الحال في “أنقرة” ولم يَرُقْه الوضع هناك حيث رأى أن كثيرًا من النواب لا يهتمون بالدين ولا بالصلاة، فبيّن لهم أهميّة الصلاة في بيان كتبه من عشر فقرات، فكثُر عدد المصلين بعد هذا البيان، ولم يعجب تأثيره هذا أركانَ الحكومة بل قلقوا منه، ووقع الخلاف بينه وبينهم.
وعلى الرغم من انتصار الجيش التركي في حرب التحرير، وطَرْدِ قوات الاحتلال، فإن الإمام بديع الزمان بقي حزينا مهموما؛ إذ رأى عن كثب انتشارَ وغزو العقلية الأوربية والطرز الأوربي للحياة شيئًا فشيئًا، ورأى ضعفَ الاعتقاد والتمسّك بالإسلام، فقرّر العودة إلى “وان” حيث لم يعجبه وضع “أنقرة”، ولم يتراجع عن قراره على الرغم من العروض المغرية الكثيرة التي عُرِضَتْ عليه كوظيفة النيابة في مجلس الشعب، وعضوية الاستشارة في رئاسة الشئون الدينية، ووظيفة الخطيب العام للولايات الشرقية، فسافر إلى “وان”.
بدأ يعيش حياة العزلة في جبل “أرك” في “وان” حيث كان يقوم بإلقاء المحاضرات الدينية والنصائح والدروس، وفي الوقت نفسه كان يقوم بمراجعة نفسه ومحاسبتها.
ودفعه تأثير الشيخوخة من جهة، وعدم حصوله على نتائج في أي من نشاطاته السياسية من جهة أخرى إلى حياة العزلة، وكأنه شعر في هذه الفترة –روحيًا- بأن انقلابًا معنويًّا عظيمًا سيحدث، وكأنه كان ينتظر الوظيفة التي سيوظفه فيها القدر.
ولم يمض وقت طويل حتى اندلعت ثورة “الشيخ سعيد”*ولكنها أُخمدت بعد إراقة الدماء الكثيرة، وعلى الرغم من أن الإمام بديع الزمان لم تكن له علاقة بهذه الثورة ولم يكن يستحسنها؛ فإنه نُفِيَ على إثرها إلى “إستانبول” في سنة 1925م، ومن إستانبول إلى “بُورْدُور” ثم “إسبارطة”، وأجبروه على الإقامة في “بارلا”، وهي قرية صغيرة تابعة لولاية “إسبارطة”؛ حتى يتمكنوا من مراقبة كل أحواله، والحيلولة دون اختلاطه بالناس.
المبحث الثاني
جهود الإمام النورسي في السعي للإرشاد والدعوة
“سعيد الجديد” وتأليف رسائل النور
إن الإمام بديع الزمان يقسِّم حياته إلى قسمين؛ “سعيد القديم” و“سعيد الجديد”، فيعبِّر عن فترة حياته التي كان يشتغل فيها بالسياسة الدنيوية إلى حد ما بفترة “سعيد القديم”، ويعبِّر عن فترة حياته التي تبدأ مع بداية تأليف رسائل النور والتي تبرز فيها وظيفته التجديدية في خدمة الإيمان والقرآن بفترة “سعيد الجديد”. (المجموعة،217:2013)
إن الإمام بديع الزمان قد ألّف في “بارلا” -حيث مكث فيها ثماني سنوات- ثلاثة أرباع كليات “رسائل النور” -وهي “الكلمات” و“المكتوبات” و“اللمعات”- التي ترتكز في أغلبها على المسائل الإيمانية، وقال عن هذا المنفى: “إن الذين ظلمونا قد خدموا الحقائق الإيمانية وساعدوا على انكشافها دون أن يشعروا، ودون أن يعقلوا أسرار القدر الإلهي”، وانتهج أسلوبًا فريدًا غير مألوف في نشر مؤلفاته في أنحاء الأناضول؛ حيث كان يشترط على من يريد أن يكون تلميذًا له أن يستنسخ رسائل النور بالحروف القرآنية، وأن يجعل غيره يستنسخها أيضًا، ومجموعة صغيرة من طلابه في ولاية “إسبارطة” و“بارلا” كانوا وحدهم يزيدون عدد نسخ الرسائل عن طريق الاستنساخ، وكانوا يسعون لزيادة عدد المستنسِخين حتى انتشرت رسائل النور بهذه الطريقة سرًّا، وفي وقت قصير، في كافة أنحاء الأناضول.(المجموعة،277:2013)
محكمة “أسكي شهر” والنفي إلى “قسطموني”
إن انتشار رسائل النور يومًا بعد يوم قد أزعج بعض الناس، فَنُقِلَ الإمام بديع الزمان من “بارلا” إلى “إسبارطة” في سنة 1934م، واعتُقل بعد سنة مع مائة وعشرين من تلاميذه بتهمة “تأسيس الجمعية السرية” و“القيام بأعمال ضد النظام” و“السعي لهدم النظام”، فأُودِعوا جميعا في سجن “أسكي شهر”.
ثم سيق هو وتلاميذه إلى المحكمة الجنائية الكبرى لـ“أسكي شهر” لمحاكمتهم، وعلى الرغم من أنه دحض كل التُّهَم التي وُجِّهت إليه بدفاعه في المحكمة، وعلى الرغم من عدم وجود أي دليل ضده؛ فإن المحكمة قد حَكمت عليه بالسجن أحدَ عشرَ شهرًا، وعلى خمسة عشر طالبًا من مائة وعشرين من طلابه بالسجن ستة أشهر، متذرّعة بـ“رسالة الحجاب”، وأُطْلِق سراح البقية. (المجموعة،534:2013)
ثم نُفِيَ الإمام بديع الزمان إلى ولاية “قسطموني” بعد أن خرج من سجن “أسكي شهر”، وأُجبِر على الإقامة في مخفر الشرطة مدة طويلة، وبعد هذا أُسكِن بيتًا مقابل ذلك المخفر. (المجموعة،631:2013)
وظلّ في “قسطموني” لمدة ثماني سنوات منفيًّا، والتفَّ حوله طلاب كثيرون كما كان في المدن الأخرى، وكانت الأيدي تتلقَّف الرسائل المؤلَّفة سابقًا من جهة، ومن جهة أخرى كان الإمام يقوم بتأليف رسائل جديدة.
إن الرسائل والخطابات الجديدة كانت تُبعث إلى “إسبارطة” أولًا، فيقوم التلاميذ بتوصيل تلك الرسائل إلى كل مكان، حتى إلى القرى، وكان عدد حلقات التلاميذ يزداد يومًا بعد يوم.
ولم يقف الذين أَطْلَق عليهم الإمامُ بديع الزمان اسمَ “أعداء الدين المتسترون” حيال هذا الانتشار مكتوفي الأيدي، ولكنهم داهموا بيته عدة مرات وسمّموه، إلا أنه قد نجا بعون الله من تأثير السمّ، ولم يستطيعوا منع انتشار النور.
محكمة “دنيزلي” و“آفيون” والنفي إلى “أميرداغ”
في سنة 1943م سيق إلى المحكمة الجنائية الكبرى لولاية “دنيزلي” مع مائة وستة وعشرين من طلابه، وطلبت المحكمة من العلماء الكبار وأساتذة الجامعة تحقيق شأن الرسائل، والتثبُّت من أمرها، وفي النهاية وصل هؤلاء المتحققون المتخصصون إلى نتيجة ساطعة، وهي: “إن الإمام بديع الزمان ليس له غرض سياسي، ولا يقوم بنشاط تصوّفي، وإن رسائل النور كتب علمية وإيمانية وتفسير للقرآن الكريم”، وحُكم ببراءته نتيجة ذلك التقرير من المتخصصين ونتيجة دفاعات الإمام في المحكمة عام 1944م. (المجموعة،714:2013)
وفي أثناء بقائه في السجن خلال تسعة أشهر حيل دون مقابلته لتلاميذه، وعُرِّض للمشقات العديدة وسُمِّم. وعلى الرغم من كل ذلك فإنه صبر ونجا بعون الله من تأثير السمّ، ثم أقام بعدما خرج من السجن في ولاية “دنيزلي” لمدة شهرين، وانتقل إلى منفى آخر، إلى “أميرداغ”. (المجموعة،793:2013)
إن انتشار دعوة النور استمرّ في “أميرداغ” على الرغم من كل المعاناة وكل المشقات، وكان هناك من يزورونه، وكان تلاميذه يأتون إليه بالرسائل التي استنسخوها باليد، وهو بدوره يقوم بمراجعتها وتصحيحها، وكثيرًا ما كان يذهب إلى التلال والحقول، ورجال الدولة يراقبونه، ويقف أفراد الشرطة أمام بيته دائمًا.
وفي أواخر سنة 1947م قُبض عليه مع طلابه في المدن المختلفة ورحِّلوا إلى ولاية “آفيون”، والتهمة لم تتغير، فهي كسابقاتها وهي: “أنه ضدّ النظام” و“يؤسس جمعية سياسية سرية”، واستمرت المحاكمة عشرين شهرًا، ثم حُكم لهم بالبراءة.
وفي سنة 1950م بدأت فترة تعدد الأحزاب السياسية في تركيا، وفاز الحزب الديمقراطي في الانتخابات ووصل إلى الحكم، وأصبح هذا التغير الذي حدث في عالم السياسة سببًا للحرية والراحة للإمام بديع الزمان ولطلابه إلى حدٍّ ما؛ نقول “إلى حد ما”؛ إذ لم تنته المعاناة والمحاكمات نهائيًا، وظل الإمام بديع الزمان مقيمًا في “أميرداغ” بعد انتهاء محكمة “آفيون” بقرار البراءة.
وبعد مجيء الحزب الديمقراطي إلى الحكم سافر إلى “أسكي شهر”، وبعد مدة انتقل إلى “إسبارطة”، وقام برعاية طلابه والاهتمام بزوّاره هناك. وفي سنة 1952م رُفعت ضده دعوى بسبب طباعة كتابه “مرشد الشباب” في “إستانبول” بالحروف الجديدة (أي الحروف اللاتينية)، فجاء إلى “إستانبول” مرة أخرى من أجل المحاكمة بعد 27 سنة من مغادرته لها، وتوافد طلابه ومعارفه القدماء بازدحام على الفندق الذي كان يقيم فيه، واستمرت المحاكمة وهو غير معتقل ثلاثة أشهر، وحكم له بالبراءة مرة أخرى، ورجع إلى “أميرداغ” بعد المحكمة.
وبينما كان يتجول وحده في الحدائق والبساتين جاءته الشرطة العسكرية وأخذته إلى المخفر بسبب عدم ارتدائه القبعة (1953م)، وبسبب هذه الحادثة كتب خطابًا وأرسله إلى وزارة العدل وإلى وزارة الداخلية، ونُشِر هذا الخطاب في جريدة محلية في تلك الولاية من قبل طلابه، ومن ثَمَّ رُفعت ضده قضية في ولاية “سامسون” واستُدعِي إليها، وكان قد أرسل إليهم تقريرًا طبيًّا يبين عدم قدرته على الذهاب إلى المحكمة؛ لأنه كان مريضا وطاعنا في السن؛ حيث كان عمره حينئذ ثمانين سنة، وأصرَّت المحكمة على مجيئه على الرغم من التقرير الطبِّي، ولما جاء إلى “إستانبول” ليسافر منها إلى “سامسون” اشتد مرضه، فأرسل إلى “سامسون” تقريرا طبّيا آخر يبين عدم قدرته على السفر لا بالبر ولا بالبحر ولا بالجو، وفي النهاية انتهت المحكمة إلى براءته.
وفي ربيع سنة 1953م مكث ثلاثة أشهر في إستانبول، وهناك شارك في احتفالات أقيمت بمناسبة الذكرى السنوية لفتح “إستانبول”، ثم بعد ذلك انتقل إلى “أميرداغ” و“أسكي شهر” ومن هناك إلى “إسبارطة”، وذهب مع طلابه إلى “بارلا” حيث منفاه الأول، ومحلُّ تأليف الرسائل.
سياحة الوداع
وفي بداية سنة 1960م كان عالم السياسة مائجا مضطربًا في تركيا، وذهب الإمام بديع الزمان إلى أنقرة ثلاث مرات لينبّه ويحذّر الحكومة ويخبرها بالكوارث التي اقتربت، إلا أنه لم يحصل على نتيجة لمساعيه المخلصة؛ بل حال وزير الداخلية دون قدوم الإمام الإمام بديع الزمان إلى “أنقرة” في تاريخ 11 يناير 1960م، وأوصوه بأن يرجع إلى “أميرداغ” وأن يقيم فيها، خاضعين لتهديدات الحزب الشعبي.
وبعدما أدى الإمام بديع الزمان واجبه أقام في “أميرداغ” بعض الوقت، ثم رجع إلى “إسبارطة”، وكأنه بعد هذا التاريخ قد بدأ يودّع ما حوله حيث كان يتحدث بكثرة عن الموت والقبر في وصاياه، فكان يقول أنه مستعدّ للارتحال إلى الآخرة باطمئنان قلب، بسبب تأليف رسائل النور، وتربية أياد قوية تتبنى دعوة الإيمان والقرآن.
وبعد ما حالوا دون دخوله “أنقرة” قرّر فجأة أن يسافر من “أميرداغ” إلى “أورفا”.
ووصل الإمام إلى ولاية “أُورْفا” بعد سفر شاق دام خمسا وعشرين ساعة بسبب اشتداد مرضه، وبسبب مراقبة الشرطة المستمرة له، واستقر في فندق “إِبَكْ بالاس” وقابل كل من جاء لزيارته من أهل “أُورْفا” على الرغم من مرضه الشديد، وودّعهم واحدًا فواحدًا، إِلاَّ أَنَّ الحكومة قد ضغطت على والي “أورْفا” وطلبت منه مغادرة الإمام بديع الزمان لـ“أورْفا” فورًا.
أما أهل “أُورْفا” الذين سمعوا أن الإمام سيغادر “أورْفا” فضغطوا من جانبهم على الإدارة بشدة حتى يمنعوا مغادرته، وعلى الرغم من كل تلك المحاولات فإن الحكومة كانت مصرّة على نقل الإمام من“أورْفا” باستخدام قوة الشرطة، إلا أنه لقي ربه فجر يوم 23 مارس عام 1960م الموافق 25 رمضان من عام 1379 الهجري، وصلَّى على إمامِ العصر حشدٌ كبير في جامع “أولو” يوم الخميس الموافق 24 مارس 1960م، وجيء بجثمانه إلى مقبرة “خليل الرحمن” ودُفن في منزله المؤقت،(المجموعة،1147:2013) وبعد وفاة الإمام بشهرين في 27 مايو حدث انقلاب عسكري، ومن ثَمَّ بدأت فترة ظلم جديدة مظلمة في البلاد؛ وبلغ هذا الظلم من شدته إلى حدِّ أن تعدَّوا على قبر حضرة الإمام في تاريخ 12 تموز 1960م؛ فأخذوا جثمانه المبارك ونقلوه إلى مكان مجهول. (المجموعة،1159:2013)
المبحث الثالث
تعريف برسائل النور وخدمة الإيمان والقرآن
رسائل النور تفسير معنوي للقرآن
التفسير – بإيجاز – هو كشف نكات ومعاني القرآن المخفية وإظهارها وبيانها، ويشبه الإمام أبو حامد الغزالي القرآن ببحر لا ساحل له، وفي أعماق هذا البحر تختفي اللآلئ والدرر واليواقيت والجواهر، إذن فالتفسير هو استخراج هذه اللآلئ والدرر واليواقيت والجواهر المخفية في أعماق هذا البحر.
ومن هنا فإن كل كتاب يتحدث عن دقائق معاني القرآن وحقائقه هو تفسير نوعا ما، ولقد ظهر في هذا الموضوع كتب كثيرة حتى اليوم في العالم الإسلامي.
ورسائل النور واحد من هذه التفاسير التي قامت حول النص القرآني وإن اختلفت في منهجها وطريقتها عن بقية التفاسير، ويبين الإمام بديع الزمان كيف أن رسائل النور تفسير للقرآن، فيقول : “إنني نبهت إلى بيان حقيقة ما قلناه مرارا وتكرارا من أن رسائل النور تفسير حقيقي قويٌّ جدًّا للقرآن الكريم؛ إذ إن بعضا من غير المنتبهين لم يفهموا معنى كلامنا هذا، وتلك الحقيقة هي:
التفسير نوعان: أحدهما: هو التفاسير المعروفة لدينا، حيث تبيِّن وتوضِّح وتثبت معاني عبارات القرآن وكلماته وجمله.
والقسم الآخر من التفسير: يبين ويثبت ويوضح الحقائق الإيمانية للقرآن بحجج قوية قاطعة، وهذا النوع له أهمية عظيمة، وكتب التفاسير المعروفة تتضمن هذا النوع أحيانا وبشكل موجز؛ إلا أن رسائل النور قد اتَّخذت هذا النوع الأخير أساسا لها مباشرة، وهي تفسير معنويٌّ يقيمُ الحجة على الفلاسفة المعاندين، ويُلزمهم ويُسْكِتُهم بصورةٍ لا مثيلَ لها”.
فرسائل النور هي – بعبارة المؤلف- “سوانح واستخراجات قرآنية غالبا ما تَرِد على القلب بفيض القرآن ومدده”. (النورسي،484:2014)
وهي “برهان باهر للقرآن مباشرة، وتفسير قوي له، ولمعة إعجاز معنوي ساطع له، ورشحة من ذلك البحر، وشعاع من تلك الشمس، وترجمة معنوية ملهمة من ذلك المعدن لعلم الحقيقة، ونابعة من فيضه”.
وقد استفاد الإمام بديع الزمان سعيد النورسي من القرآن الكريم مباشرة في أثناء تأليف رسائل النور، حيث تم تأليف تلك الرسائل بعد بحث معنوي، وهو نفسه يشير إلى ذلك ويصرح به فيقول: “يوصي الإمام الرباني بإصرار في كثير من مكتوباته ويقول (وحِّد القبلة)، أي اتخذ واحدا فقط أستاذا لك فاتبعه ولا تنشغل بالآخرين”، ولم توافق وصيته الأخيرة المهمة هذه استعدادي وأحوالي الروحية، ففكَّرْتُ في الأمر طويلا ولكني تحيرت، من أتّبع ؟ أأتبع هذا؟ أم ذاك؟ أم آخر؟ فلكل واحد من هؤلاء مزايا وخصائص جذابة، ولم أكن أستطيع أن أكتفي بواحد، وبينما أنا في هذه الحيرة والتفكير؛ إذا بي يخطر على قلبي – برحمة الله – أن رأس هذه الطرق المختلفة، ومنبع هذه الجداول، وشمس هذه الكواكب هو القرآن الحكيم، ولا يتم توحيد حقيقي للقبلة إلا به، إذن فهو أعلى وأعظم مرشد وأقدس أستاذ، فتمسكت به، واستعدادي الناقص الضعيف المسكين – بلا شك- لا يستطيع أن يستفيض ويرتشف كما ينبغي من فيض ذلك المرشد الحقيقي الذي هو كالماء الباعث للحياة، إلا أننا يمكن أن نظهر ذلك الفيض وذلك الماء الباعث للحياة بواسطة فيضه هو حسب درجات أهل القلوب، وأصحاب الأحوال، إذن فهذه الكلمات والأنوار المنبعثة من القرآن الكريم ليست مسائل علمية عقلية فحسب، بل هي مسائل إيمانية قلبية وروحية وحاليّة، وهي بمنزلة معارف إلهية سامية وقيِّمة جدًّا”.(النورسي،235:2013)
“المتكلم في “الكلمات” – أي في رسائل النور كلها – ليس أنا، بل الحقيقة هي التي تتكلم باسم “الإشارات القرآنية” وإن الحقيقة تنطق بالحق وتقول الصدق؛ لذا إن رأيتم خطًا فاعلموا يقينًا أن فكري قد خالط البحثَ، وعكّر صفوه، وأخطأ دون إرادة مني”.
رسائل النور درس قوي في علم الكلام
قد عُرِّفَ علم الكلام منذ أمد بعيد من حيث الموضوع والغاية بتعريفين:
فتعريف علم الكلام من حيث الموضوع هو علم يبحث في أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، وفي المسائل المتعلقة بالنبوة والرسالة، ويتحدث عن أحوال المخلوقات من حيث المبدأ والمعاد حسب النظام الإسلامي.
أما من حيث غايته فهو علم يُكسِب المسلمَ القدرة على إثبات العقائد والمعتقدات الدينية باستخدام الأدلة والحجج القاطعة، وبإزالة الشبه الواردة.
ويلخص العلماء غاية علم الكلام كما في كل العلوم الإسلامية بأنها “تأمين سعادة الدنيا والآخرة”، وتحدثوا كذلك عن غايات علم الكلام وفوائده الثانوية، ويمكن ترتيب تلك الغايات كما يلي:
يرفع إيمان المرء من مرتبة الإيمان التقليدي إلى مرتبة الإيمان التحقيقي، ويرشد الباحث عن الحقّ ويوصله إليه، ويقيم الحجة على الكفرة والملحدين وأهل البدع ويفحمهم، ويخلص أسس العقائد من التزعزع أمام الشبهات التي يطرحها وينشرها أهل الضلال.
ورسائل النور تحتوي على علم الكلام من حيث هذه الغايات المذكورة، إلا أنها تختلف عن علم الكلام المعروف التقليدي من حيث الطريقة والأسلوب، فمثلا يستخدم علم الكلام في التوحيد دليل الحدوث والإمكان، بينما تستخدم رسائل النور دليل النظام والغاية الذي هو طريقة قرآنية، وتجد في كل شيء طريقًا يوصل إلى الحق تعالى.(النورسي،10:2016)
وقد عبَّر الأستاذ عن هذه الخاصية لدعوة رسائل النور في علم الكلام عند إجابته عن سؤال طالب من طلابه كالآتي:
تسألني في رسالتك أن تتلقى عني علم الكلام، فأنت تتلقاه بالفعل عن رسائل النور، حيث إن جميع الكلمات التي تستنسخها هي دروس علم الكلام المنوّر الحقيقي، ولقد قال بعض المحققين القدسيين من أمثال الإمام الرباني:
سيبين شخص في آخر الزمان علم الكلام، أي المسائل الإيمانية والكلامية التي هي مذهب أهل الحق بيانًا سيتسبب في انتشار تلك الأنوار أكثر من نشر أهل الكشف والطريقة لها.ولاشك أَنَّ هذه الإشارة الغيبية كانت من حظ رسائل النور.(النورسي،280:2018)
خدمة رسائل النور
لقد عبر الإمام بديع الزمان عن الفتنة الشديدة التي ابتلي بها أهل الإيمان بعدما سافر إلى أنقرة بدعوة من الحكومة بعد حرب التحرير بقوله “سافرت إلى أنقرة في سنة (1338هـ/1922م)، وشاهدت أن فكرة الزندقة الرهيبة تسعى إلى التسلل بمكر ودهاء – بغية الإفساد والتسميم – إلى الأفكار القوية لأهل الإيمان الذين يفرحون لغلبة جيش الإسلام على اليونان، فتأوَّهت وقلت: هذه الأفعى ستتعرض لأركان الإيمان”.(النورسي،193:2010)
ومع الأسف الشديد وقع فعلًا ما كان يَخشى وقوعَه الإمامُ بديع الزمان، وقد تعرَّضت الأفعى لأركان الإيمان.
وقد تحدث الأستاذ في أثناء إقامته في “وان” بعد عودته من “أنقرة” عن تجربة نفيه في “إسبارطة” فقال:
“أحمد الله مائة ألف مرة، وأقول – تحدثًا بالنعمة – إن جميع مضايقاتهم واستبداداتهم تصبح كالحطب لإشعال نار الهمة والغيرة؛ لتزيد أنوار القرآن سطوعًا، فتلك الأنوار القرآنية التي قوبلت بالمضايقات وانبسطت بحرارة الغيرة والهمة جعلت جميع هذه الولاية بل أكثر المدن في حكم مدرسة، ولم تنحصر في بارلا وحدها، إنهم يحسبون أنني محبوس في القرية، إلا أن تلك القرية “بارلا” أصبحت منصَّةَ درسٍ رغم أنف الزنادقة، وكثير من الأماكن كـ“إسبارطة” أصبح مدرسةً، فالحمد لله هذا من فضل ربي.” (النورسي،185:2010)
وبدأ بتأليف رسائل النور في هذه الناحية الصغيرة الموجودة على قمة جبل، فقدَّم بمؤلفاته وآثاره التي كل منها وصفات قرآنية التشخيصَ والعلاج لأمراض هذا العصر المعنوية، ولجميع طبقات البشر وأهل الإيمان، فأصبح كل من رسائل النور ومنهج دعوة الإمام اللذين قُدِّمَا للبشرية والمسلمين بمنزلة ترياق وأدوية معنوية لملايين من الناس، فجعلا المخططات السرية الخبيثة عقيمة ولا جدوى مرجوة منها، وواهية أوهى من بيت العنكبوت لا أثر لها بإذن الله..
ويعبر الإمام بديع الزمان عن مدى تأثير رسائل النور والغاية التي تستهدفها بقوله: “إن رسائل النور لا ترمم تخريبات جزئية أو منزلا صغيرا، بل ترمم تخريبات كلية، وقلعة عظيمة محيطة تحيط بالإسلام، أحجارها ولبناتها ضخمة ضخامة الجبال، وهي لا تُصلِح قلبا وضميرا واحدا معينًا، بل تسعى بإعجاز القرآن لمعالجة القلب الاجتماعي، وأفكار المجتمع التي طُعنت بطعنات قاتلة بآلات مُفسِدة، حُشِدت وجُمِعت منذ ألف سنة، ولا سيما الضمير العمومي الذي طفق يفسُد نتيجة الضعف الذي أصاب الأسس والتيارات والشعائر الإسلامية التي هي نقطة استناد لعوام المؤمنين، وتسعى لمعالجة الجروح الغائرة لتلك القلوب والأفكار والضمائر بأدوية القرآن والإيمان.
إذن فلا شك من وجود أجهزة وحجج في درجة حق اليقين، وفي قوة الجبال الراسيات، ووجود ما لا حد له من علاج وأدوية مجرَّبة يحمل كل واحد منها قوة وخاصية ألف دواء لمعالجة مثل هذه الطعنات والجروح الكلية الغائرة، فرسائل النور ـ التي ظهرت من الإعجاز المعنوي للقرآن المعجز البيان ـ تؤدي تلك الوظيفة في هذا الزمان، فضلا عن أنها مدار للترقيات والانكشافات فيما لا حدَّ له من مراتب الإيمان.(النورسي،28:2016)
فرسائل النور ودعوتها التي تستمد كلَّ قوَّتِها من القرآن قد نالت من الله التوفيق الذي لا يوجد له نظير في التاريخ الإسلامي بعد عصر السعادة وخير القرون، مقارنة بمناهج الدعوة وأساليبها المتبعة، وبالمؤلفات الأخرى التي كتبت في العهد نفسه في العالم الإسلامي.
فالإمام بديع الزمان الذي عبَّر عن قوَّةِ هذا التفسير القرآني بقوله: “إن رسائل النور لا تنطفئ ولا يمكن إطفاؤها، ورسائل النور نور يسطع كلما حاولوا إطفاءها، وإن رسائل النور كشَّاف يكشف عن معمى طلسم الكون ويحله”؛(المجموعة،537:2013) قد نال التوفيق على الرغم من الاستبداد والظلم اللذين أحاطا به، وعلى الرغم من أنه سُمِّم مرات عديدة، وألقي به في غياهب السجون والزنزانات، وقضى عمره في المنافي، ولم تستطع دوامة الظلم والاستبداد الذي تعرض له أن تمنع من أن يكون سببًا لشفاء صدور أهل الإيمان، ودواء همومهم، بل لم يعبأ بالظلم الذي تعرض له، وتحدَّى قوى الظلم إلى آخر نَفَس من أنفاسه، فقد أجرى معه الصحفي المعروف أشرف أديب لقاء صحفيا عام 1952م، وكان عمره حينئذ 76 عامًا إلا أن هذا العمر لم يمنعه من أن يقول: “ليتني أتعرض لألف ضِعف من هذه المشقة والظلم ولكن يبقى مستقبل قلعة الإيمان في أمن وسلام” (المجموعة،980:2013) فأثبت أن الهمة والشعلة التي بدأت في روحه منذ نصف قرن ما زالت مستمرة متوهجة.
أساس مسلك رسائل النور: خدمة الإيمان والقرآن:
يقول الإمام بديع الزمان عن فكرة الإلحاد المدهشة التي تشكلت في عصره والتي جذورها في الخارج “إنه لا يؤلمني سوى المخاطر المحيطة بالإسلام؛ إذ كانت المخاطر سابقًا تأتي من الخارج, وكانت مقاومتها يسيرة, أما الآن فإنها تأتي من الداخل حيث دبَّت الديدان في الجسد فتعسرت المقاومة، إنني أخشى ألا تتحمل بنية المجتمع هذا الداء الوبيل لأنه لا يحس بالعدو, ويظن من يقطع شريانه ويمص دمه صديقًا له، وإذا عميت بصيرة المجتمع إلى هذا الحد فقلعة الإيمان إذن في خطر، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يؤلمني.”
“إنني أرى الرءوس الكبيرة سادرة في الغفلة، فقلعة الإيمان لا تسند بأعمدة الكفر النخرة، ولهذا أبذل كل جهدي وسعيي في الإيمان وحده.. إنني أترنم بجوهر حياة المجتمع، وبوجوده المعنوي وبوجدانه وإيمانه، وقد حصرت انشغالي في أساس التوحيد والإيمان الذي أسّسه القرآن؛ إذ إن العمود الرئيس لمجتمع الإسلام هو هذا، فإذا تزلزل ضاع المجتمع.”
“لي غاية واحدة وهي: أنني في هذا الوقت الذي أقترب فيه من القبر، وفي هذا الوطن الذي هو بلاد إسلامية، نسمع نعيق بوم البلاشفة، هذا النعيق يهدد أسس الإيمان في العالم الإسلامي، ويشدّ الشعب ولاسيما الشباب إليه، بعد سلب الإيمان منهم، إنني بكل ما أملك من وجود، أُجاهد هؤلاء، وأدعو المسلمين وبخاصة الشباب إلى الإيمان، فأنا في جهاد دائم مع هذه المجموعة الملحدة، وأريد أن أمثل -إن شاء الله- في ديوان حضوره سبحانه وأنا رافع راية هذا الجهاد، وكل عملي منحصر في هذا.” (المجموعة،977:2013)
إن روح مسلك رسائل النور هي وجهة النظر هذه، ويمكننا أن نرى الطراز الدعوي الأصيل الفريد الذي يتَّبعه لوصول هذه الخدمة إلى الغاية المذكورة، والذي يتخذ فيه الدعوة النزيهة اللطيفة والدعوة بالقول اللين أساسًا له، والذي يخاطب فيه نفسه أولًا وقبل كل شيء، فيما ذكره الإمام وهو كالآتي:
“إن أساس رسائل النور وخميرتها وقاعدتها وروحها وحقيقتها هي تصديق الحقائق الإيمانية – من حيث الإيمان بالغيب، وبفيض سر الوحي، وبأسلوب برهاني وقرآني، بامتزاج العقل والقلب- بعلم اليقين الذي يصل إلى درجة الضرورة والبداهة في قوة حق اليقين”(النورسي،100:2016)
إن رسائل النور درس قوي في علم الكلام، وتفسير معنوي يوصل جواهر القرآن المحيطة الغنية إلى البشرية بجناحي العقل والقلب، وهي تملك قوة علمية وفكرية تستطيع أن تلبِّي كل الحاجات المعنوية للزمن الحاضر والمستقبل، فضلا عن أنها تحتوي على كل ثروات عالم الفكر التي ظهرت في التاريخ الإسلامي، ومن هذا المنطلق ففي هذه الرسائل قدرة على إزالة كل الاعتراضات والشبه التي تثار حول الحقائق الإيمانية، وعلى إلزام المعترضين.
وظيفته التجديدية
إن الإمام بديع الزمان ورسائل النور التي ألفها قد نالا شرف التجديد الذي ذُكِر في الحديث الشريف“إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” بفضل التأثير الذي أحدثاه في القلوب والعقول، وبتقديمهما القرآن الكريم بأسلوب يناسب ويلائم فهم وإدراك هذا العصر.
ويوضح الأستاذ الإمام بديع الزمان حالته الروحية التي أعدَّته لحمل هذا الشرف ـ شرف التجديد ـ الذي وجد قبولا عند العلماء بقوله:
“قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وإبّان نشوبها رأيت في رؤيا صادقة الآتي: رأيت نفسي تحت “جبل آرارات” وإذا بالجبل ينفلق انفلاقًا هائلًا، فيقذف صخورًا عظيمة كالجبال إلى أنحاء الأرض كافة، وأنا في هذه الرهبة التي غشيتني رأيت والدتي – رحمة الله عليها – بجواري، فقلت لها: – لا تخافي يا أماه! إنه أمر الله، إنه رحيم وحكيم.
وبينما أنا بتلك الحالة إذا بشخص عظيم يأمرني قائلًا: بيّن إعجاز القرآن.
فأفقتُ من نومي، وأدركتُ أنه سيحدث انفلاق عظيم، وستتهدم الأسوار التي تحيط بالقرآن الكريم بسبب ذلك الانفلاق والانقلاب العظيم، وسيتولى القرآن بنفسه الدفاع عن نفسه حيث سيكون هدفًا للهجوم، وسيكون إعجازه حصنه الفولاذي، وسيكون شخص مثلي مرشحًا للقيام ببيان نوع من هذا الإعجاز في هذا الزمان – بما يفوق حدّي وطاقتي كثيرًا – وأدركتُ أني مرشح للقيام بهذا العمل.”(النورسي،130:2016)
أجل؛ إن هذا الزمان يحتاج إلى مجدد مهم جدًّا من أجل الإيمان والدين، والحياة الاجتماعية، وإقامة الشريعة، والحقوق العامة، والسياسة الإسلامية، ولكن التجديد القائم على الحفاظ على الحقائق الإيمانية- التي هي أهم هذه النقاط المذكورة- هو أقدس أنواع التجديد وأعظمها وأجلُّها، حيث إن إقامة الشريعة والحياة الاجتماعية والسياسية تبقى في الدرجة الثانية والثالثة والرابعة بالنسبة لها، أما الاهتمام الكبير الوارد في روايات الأحاديث بتجديد الدين فهو يعني التجديد في الحقائق الإيمانية؛ إلا أن دائرة الحياة الاجتماعية الإسلامية، والحياة السياسية الدينية، الواسعة في ظاهرها والجذَّابةَ من حيث السيطرة والحكم؛ تبدو الأهم في الرأي العام، وفي نظر من يضعون الحياة موضع اهتمام كبير؛ إذ لا ينظرون إلا من خلال هذه العدسة ومن هذه الزاوية فلا يفهمون الحديث إلا حسب هذه النظرة.
ولله الشكر بلا حد أن جعل الشخص المعنوي للطلاب الحقيقيين لرسائل النور في هذا الزمان يقوم بوظيفة التجديد في الحفاظ على الحقائق الإيمانية، حيث يشهد أربعون ألف رجل على أن ذلك الشخص المعنوي لهم تصدى منذ عشرين سنة للهجوم العنيف القوي من الزندقة والضلال تصديا كبيرا، بمنشوراته المؤثرة ذات الفتوح الربانية في تلك الوظيفة القدسية، وأنه أنقذ إيمان مئات الآلاف من أهل الإيمان، وينبغي ألا يُهتمَّ وألا يُنظر إلى شخص عاجز ضعيف لا حول له ولا قوة مثلي على أنه حمل وحده ثقلا يفوق طاقته وحدّه بآلاف المرات”.
ويبين الإمام بديع الزمان سعيد النورسي في رسالة أخرى له أن العصر عصر الجماعة، ويركز في أمر التجديد على رسائل النور وعلى الشخصية المعنوية لطلاب رسائل النور، ولا يظهر نفسه ولا يقدمها، ثم يؤكد النقاط التالية:
إن ما ترون من مزايا ليس لي، بل لرسائل النور التي هي تفسير لحقيقة واحدة من حقائق القرآن الحكيم، وكما جاء في كل عصر مجددون خدموا الدين والإيمان خدمة تامة؛ فكذلك يجب أن يصبح شخص معنوي مجددًا في هذا العصر عصر العجائب، وعصر التجمعات، وعصر سيطرة الشخص المعنوي للضلالة على الأمور، ولا يشبه هذا العصر العصور الماضية، فمهما يكن الشخص فذًّا خارقًا في هذا العصر فإنه يمكن أن ينهزم أمام الشخص المعنوي.
فمن المحتمل احتمالا قويًّا من هذه الناحية أن تكون رسائل النور مجددًا نوعًا ما؛ لذا فليست تلك المزايا لي، بل يمكن أن تكون حياتي نواة لرسائل النور نوعًا ما كما كتبتُ مرَّاتٍ عديدة، فتلك النواة يجعلها الحق تعالى شجرةً مثمرةً قيمةً عظيمة لرسائل النور بفيض القرآن وبرحمة وإحسان منه تعالى، وما كنت إلا نواة، ثم تفسَّخت وماتت تلك النواة؛ لذا فإن جميع المزايا والمحاسن إنما هي لرسائل النور التي هي تفسير القرآن الحكيم.
الابتعاد عن السياسة
لقد أبقى الإمام بديع الزمان سعيد النورسي دعوة رسائل النور وتلاميذها بعيدة عن السياسة الدنيوية المبنية على الكذب، وهو يرى أن خدمة الدين والعلم بواسطة السياسة في زمن عاصف شديد عقيمةٌ ودون جدوى، ويعتقد اعتقادًا جازمًا أن أول وسيلة لكسب الحياة الأبدية هو الإيمان، لذا فهو يرى أنه من الأوجب والألزم أن يعمل المرء بكل همته في هذا العصر من أجل الإيمان، ويقول في هذا الشأن:
“إن أعظم خطر على المسلمين في هذا الزمان هو فساد القلوب وتزعزع الإيمان بضلال قادم من الفلسفة والعلوم، وإن العلاج الوحيد لإصلاح القلب وإنقاذ الإيمان إنما هو النور وإراءة النور، فلو عُمل بهراوة السياسة وصولجانها وأُحرز النصر، تدنى أولئك الكفار إلى درك المنافقين، والمنافق أشد خطرًا من الكافر، فصولجان السياسة إذن لا يُصلح القلب في مثل هذا الوقت، حيث يُنزل الكفر إلى أعماق القلب ويتستر هناك وينقلب نفاقًا، ثم إن شخصًا عاجزًا مثلي، لا يمكنه أن يستعمل النور والهراوة معًا في هذا الوقت؛ لذا فأنا مضطر إلى الاعتصام بالنور بما أملك من قوة، فيلزم عدم الالتفات إلى هراوة السياسة أيًّا كان نوعها”.(النورسي،68:2010)
لقد وجه الأنظار التي عميت بسبب تحيز سياسي إلى أنوار القرآن بالابتعاد عن السياسة، ولم يُنزِل حقائق القرآن القيمة كالألماس إلى منزلة قطع الزجاج تحت الاتهام بالدعاية السياسية، وقد علم أن السياسة المبنية على المصلحة والمنفعة هي وحش كاسر، وذكر النتائج السيئة للسياسة وقال: “أعوذ بالله من الشيطان والسياسة”، ولم يدخل في الحياة السياسية.
الحفاظ على القراءة والكتابة بالحروف القرآنية
إن الإمام بديع الزمان سعيد النورسي وتلامذته يهتمون بتعليم ما يسمى بـ “اللغة العثمانية” ونشرها بين شعب تركيا، وهي في حقيقتها ليست إلا القراءة والكتابة بـ “الحروف القرآنية”.
وهذا العمل له أبعاد علمية وثقافية وسياسية خطيرة حيث إن شرْحه وإيضاحه يتطلب مئات من الصفحات وقد لمحنا إليه تحت عنوان محاربة البدع، ونحن بدورنا سنشير هنا إلى ما في هذه القضية من نقاط رئيسة، ونحيل القارئ الكريم إلى ما بينه الإمام المجدد بديع الزمان سعيد النورسي في رسائله المسماة “برسائل النور”، حيث سطر مئات من الصفحات في بيان وإيضاح أهمية هذه القضية التي كانت منسيةً بين أبناء من حملوا راية الإسلام قرابة ألف سنة.
إن الإمام بديع الزمان رحمه الله قد اهتم بالحروف العربية اهتماما بالغا، وجعلها من أهم القضايا الرئيسة التي تبناها ودافع عنها وربَّى تلامذته عليها، حيث كان يصب اهتمامه في الدفاع عن السنة النبوية وشعائر الإسلام وإحيائها ومحاربة البدع؛ لذا نجده يسمي الحروف التي كتب بها شعب تركيا منذ ألف سنة “الحروف القرآنية” أو “الحروف الإسلامية” ولم يقل “الحروف العربية” أو “العثمانية” إلا نادرا، وبضرورة السياق، وكان يقول: “إن وظيفة مهمة من وظائف رسائل النور هي الحفاظ على الحروف العربية التي هي خط وكتابة أغلب دول العالم الإسلامي”
هذا الاهتمام له جذور لا تنتهي عند الإمام النورسي وحده، بل تمتد عبر القرون الإسلامية إلى أبعد منه بكثير؛ حيث اهتم بها علماء المسلمين على اختلاف أوطانهم ولغاتهم وعصورهم؛ إذ كلما دخل قوم من أقوام غير العرب الإسلامَ اهتموا بتعلم الحروف القرآنية وعدوها قضية من القضايا المتعلقة بالإسلام بجانب قضايا إسلامية كثيرة أخرى، حيث كانوا يرون الحروف القرآنية شعيرة من شعائر الإسلام التي تُذكِّرهم بدينهم وقرآنهم ورسولهم، وتلفت نظرهم إلى ما بينهم من نقاط الوحدة والاتحاد على اختلاف بلادهم ولغاتهم، حتى جاء عهد الاستعمار وانقطعت الصلة بين المسلمين وبين كثير من قضاياهم، فأصبحت تلك القضية من القضايا المنسية.
لذا تجد أقوام الشرق الأقصى من ماليزيين وأندونيسيين وتايلانديين وغيرهم كتبوا وقرأوا لغاتهم بالحروف القرآنية مع أن لغاتهم ليست اللغة العربية، وكذلك مسلمو الصين وتركستان الشرقية وباكستان وأفغانستان وإيران ودول آسيا الوسطى الكثيرة، ودول إفريقيا متأثرون باستخدام الدولة العثمانية الحروف القرآنية في كتابتها اللغة التركية طوال العصور مع أنها دولة تركية.
وهنا نذكر حوارًا خطيرا دار بين مفتى أوزبكستان وكان مفتيا عامًّا لجميع دول آسيا الوسطى، وبين أحد الأتـراك، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث قال للمفتي: إذا نشرتم الحروف اللاتينية في دول آسيا الوسطى التي تتكلم باللغة التركية فسيكون هذا سبب اتحاد مائة وخمسين مليون تركي، فرد عليه المفتي ردا تاريخيًّا وقال: أنتم إذا قبلتم ونشرتم الحروف القرآنية فسيكون هذا سبب اتحاد مليار ونصف المليار من المسلمين.
وقد كرّس الإمام النورسي مع تلامذته مجهودات لا مثيل لها في سبيل هذه القضية؛ حيث ألَّف كل مؤلفاته البالغة أربعة عشر مجلدا بالحروف القرآنية وباستنساخ اليد، حتى وصل عدد المجلدات المستنسَخة سرًا وبخط اليد إلى أكثر من مليون نسخة، ولم يسمح بطبعها بالحروف اللاتينية إلا في أواخر أيام حياته، وبقدر الضرورة؛ حتى يجلب أنظار الجيل الجديد إلى تلك الحروف القرآنية، ووضَعَ كتابة واستنساخ الحقائق الإيمانية والقرآنية التي وردت في رسائل النور شرطا من الشروط الأساسية لطلاب رسائل النور حيث قال:
“إن أهم وظيفة لمن انتسب إلى رسائل النور هي كتابتها واستنساخها أو جعل الآخرين يكتبونها ويستنسخونها، والسعي لنشرها، فالذي يستنسخها أو يجعل الآخرين يستنسخونها يكتسب عنوان (طالب رسائل النور).(النورسي،20:2016)
فمن هذا المنطلق يهتم جميع تلاميذ الإمام النورسي رجالا ونساء وأطفالا وشبابا وشيوخا بتعلّم وتعليم القراءة والكتابة بالحروف العربية التي يصفونها بـ“الحروف القرآنية”.
المبحث الرابع
انتشار دعوة رسائل النور والدعوة بعد رحيل الإمام النورسي
انتشار دعوة رسائل النور وأحمد خسرو آلتين باشاق
قاوم الإمام بديع الزمان مع تلاميذ ـ في بداية أعوام سقوط الخلافة العثمانية العظمى ـ كل التيارات المعادية للإسلام بمجاهداته وبدعوته التي كانت تحتضن العالم الإسلامي كله في تلك الأوقات الصعبة القاسية، التي كان يتجنب فيها كثير من الناس النضال جهارًا، وكان أقل تحرك لحساب الإسلام حينئذ يُكَلِّفُ أثمانا باهظة.
وبينما لفّ اليأس الكثيرين وشملهم، ودق أوتاده وشد أطنابه على قلوبهم؛ كان هو وتلاميذه ينظرون إلى المستقبل بأمل وعزم وثبات، ويجاهدون ويناضلون بكل قوتهم وجهودهم من أجل إنقاذ الجيل الجديد من فتن آخر الزمان التي عمَّت زمانهم، ولبَّدت سماء عصرهم.
وكان طلاب النور في سبيل ذلك يُتَّهمون من أجل الحفاظ على الحقائق الإيمانية والشعائر الإسلامية والإعلان عنهما بتهم تأسيس جمعية غير قانونية، والمطالبة بحكم الشريعة وممارسة نشاطات تتعلق بتغيير المبادئ الأساسية للدولة بغية إقامة الخلافة الإسلامية، ويساقون من محكمة إلى محكمة ويُزَجُّ بهم في السجون، فيبقون فيها سنوات عديدة ثم يخرجون، فيدفعون ـ من جرَّاء دعوتهم هذه ـ ألوانًا من الأثمان الباهظة بحياة السجون والمنفى التي يواجهونها، وبشلل حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، ومع كل هذا كانوا يثبتون على دعوتهم بما يأخذونه من فيض من رسائل النور.
ويصور الإمام الكبير بطل المعاناة هذه اللوحة في سيرته الذاتية فيقول:
“إنني لا أعرف طوال عمري البالغ نيفًا وثمانين سنة عن متع الدنيا شيئًا، قضيت كل حياتي في ميادين الحرب، وزنزانات الأسر، أو سجون البلاد ومحاكمها، وما من لون من ألوان المعاناة والأذى إلا وتجرَّعته، عوملت في المحاكم العسكرية وكأنني مجرم، ونفيت في طول البلاد وعرضها كالمشردين، ومُنعتُ من مخالطة الناس شهورًا في زنزانات البلاد، وسُمِّمتُ مرارًا، وتعرضت لإهانات متـنوعة.”(المجموعة،979:2013)
وتحت كل هذه الظروف والمعاناة كان الأستاذ بديع الزمان يرسل الرسائل التي ألفها في هذا السياق القاسي في أجزاء متفرقة إلى مركز الدعوة النورية (إسبارطة) ، إلى الأستاذ أحمد خسرو آلتين باشاق الذي شارك الإمام في حياته المليئة بالمعاناة، وشاركه نفس الغايات، وبقي بجواره دومًا، والذي حُكِمَ عليه بالإعدام مع إمامه وطلاب النور الصادقين في محاكم مدن أسكي شهر ودنيزلي وأفيون، والذي سمم مع الإمام وطلاب النور في سجن دنيزلي، وحفظهم الله جميعا في هذه المحنة، إلا أن الحافظ علي وقع شهيدًا من بينهم في هذه الحادثة، رحمة الله عليه.
وكانت رسائل النور تُسْتَنْسخُ نسخًا كثيرة باليد من قبل طلاب النور من ناحية، وبآلة النسخ من ناحية أخرى تحت إشراف الأستاذ أحمد خُسرَوْ، وترسل إلى كافة أنحاء البلاد، وجميع خطابات طلاب النور في جميع أنحاء البلاد كانت تصل إلى الإمام بواسطته هو، وكان يرد على هذه الخطابات بنفسه في كثير من المرات بناء على رغبة الإمام، وتكليفه له بذلك.
ويتحدث الإمام بديع الزمان عن وظيفة الأستاذ أحمد خُسْرَوْ الذي لقَّبه بـ “مصنع الوَرْد” من حيث إدارته دعوة النور وتنسيقها، فيقول:
“إننا نبارك خسرو في التصحيح والتوزيع والتدبير والمخابرة، ونشر الأنوار، وإيصالها، إلى الآخرين وندعو له بالتوفيق، ونحن نرى مع هذه الوظائف المهمة كتابات قلمه البديع اللطيف في كثير من النسخ التي كتبها … وإن فكر خسروْ العالي جدًّا وذا الكرامة والصواب والنفع الدائم ثمين وذو قيمة في خدمة القرآن”.
إن الإمام بديع الزمان – الذي أعطى الأستاذَ أحمد خسرو صلاحية لم يعطها لأي تلميذ آخر من تلامذته، وهي صلاحية التدخل في رسائل النور قائلا: “يمكن أن يُعدِّل خسرو ويبدل ويصحح المواضع التي يراها غير مناسبة”(النورسي،602:2012) – قد أبان عن الموقع الخطير الشأن للأستاذ أحمد خسرو في خدمة نشر رسائل النور حين أراد أن يفدي الإمام ويموت بدلا منه عندما سمِّمَ في محافظة أميرطاغ وهو منفي فيها؛ بهذا الجواب الذي رد به عليه، وأشار إشارة مهمة متوجهة إلى المستقبل فقال : “إن بطل رسائل النور خسرو يريد أن يموت ويمرض بدلا مني بإخلاص وصدق من صميم قلبه، وأنا أقول: الوقت وقت النشر وليس وقت التأليف، وإن حياتك مفيدة ونافعة في الدعوة النورية أكثر من حياتي المليئة بالعذاب والمشقة، كما أن كتابتك أجمل وأنفع للنشر من كتابتي، فلو كان باستطاعتي أن أعطيك من حياتي وصحتي لأعطيتك بكل السرور والرضا”. (النورسي،602:2012)
خسرو أفندي كما وصفه الإمام بديع الزمان
إن “الإمام بديع الزمان” الذي وصف طلابه دائمًا بـ“خُسرو ولاية قسطموني” و“خسرو ولاية دنيزلي” و“خسرو الثاني” و“خسرو الصغير” متخذًا “خسرو أفندي” مقياسًا، قد أشار كثيرًا إلى المقام المعنوي لـ“خسرو أفندي” وخدماته، ودعا طلابه إلى احترامه وتقديره.
ثم إنه رأى أن القوى الخفية قد أدركت هذا المقامَ العالي لـ“خسرو أفندي” عند “الإمام بديع الزمان” وطلابِه، وأدركت موقفَه من دعوة رسائل النور ؛ تلك القوى التي تخطط مكائد ودسائس لزعزعة هذا الوضع؛ فحذّر طلابه من الانخداع لمثل تلك المكائد قائلًا: “إن أعداءنا الخفيين يتبعون خطتين اثنتين؛ إحداهما: التهوين من شأني بشتى أنواع الغدر والإهانة، وثانيتهما: بث الجفاء فيما بيننا، وتفرقتنا بنشر روح الانتقاد والاعتراض والاستياء فيما بيننا ولاسيما مع “خُسرو”، إنني أعلن لكم: لو كان لخسرو ألف تقصير فإني أخاف من أن أكون مخالفا له؛ لأن مخالفته خيانةٌ عظيمة لرسائل النور مباشرة، ولي بالذات، ولصالح من يظلموننا ويضيِّقون الخناق علينا”. (النورسي،546:2012)
ومن الواجب أن نقبل أن هذه العبارات من الإمام ليست عبارات ثناء هينة بسيطة تقال في حق كل أحد؛ إذ إن الإمام يثني على كثير من تلاميذه الذين سبق أن خدموا الدين ويصفق لخدماتهم وما قاموا به من أعمال، ولكنه لم يذكر هذه العبارات في حق أي واحد منهم بهذه الصورة.
إن الإمام بديع الزمان الذي وضع “خسرو أفندي” في درع معنوي تجاه الأخطار والفتن الداخلية والخارجية، طلب من طلابه أن يحترموه وأن يزوروه هو أيضًا، وألا يستاءوا منه لموقفه المتميز في هذه الدعوة، فالعبارات التالية للإمام بديع الزمان في هذا المقام في حكم تنبيه لطلابه ووصية لهم، فيقول: “يجب ألا يُستاء من بطل رسائل النور “خسرو” لكونه في مكاني ولكونه ممثلًا مهمًّا جدًّا للشخصية المعنوية لرسائل النور”. (النورسي،543:2012)
إن عبارات الإمام صريحة وواضحة لا تحتاج إلى دليل وبحث آخر، وإن رسائل النور ملك للجميع وفي متناول كل واحد، وليست حكرًا على أحد، ويصف لنا الإمام خسرو أفندي في وصية له بهذه العبارات فيقول:
“إنني أعلن وأثبت أن خسرو الذي يعامل معاملة باردة في هذا البرد، ويُشاع أنه مُضِرٌّ للبلد وهو مريض عليل سلمه الله؛ هو بطل معنوي كبير للشعب التركي ومنقذ لهذا البلد ، ومضحٍّ صادق يفتخر به الشعب التركي، وقد نال الإخلاص الكامل التامّ نيلا تامًّا، وليس عنده شيء من الرياء أو حب الشهرة، ومن ثم حان وقت بيان بعض من خدماته لهذا البلد ولهذا الشعب. (النورسي،553:2012)
إنه قد استنسخ ما يقرب من ستمائة رسالة من رسائل النور بقلمه الخارق اللطيف، ونشرها في أرجاء البلاد، وكسر شوكة الإرهاب الذي يسعى إلى الإفساد الشديد في هذا البلد تحت ستار الشيوعية، وحال دون انتشاره وسيطرته، وأوصل الأدوية الفعالة المؤثرة إلى كل الأنحاء من أجل إنقاذ هذا الوطن وهذا الشعب من ذلك السمّ، وأصبح وسيلة لإنقاذ الشباب التركي والأجيال القادمة من خطر كبير. وقد أنعم الله تعالى على هذا الشعب ببطل من أبطال رسائل النور وهو خسرو، وكنت أخفي خسرو من أهل الدنيا ولا أكشفه لهم”.ويجعل اتخاذ موقف ضد خُسرَوْ مساويًا تمامًا لاتخاذ موقف ضد رسائل النور وضده هو شخصيًا، وكان ينبه دائمًا بعضًا من تلاميذه ويحذرهم من احتمال وقوعهم في فخ الخيانة بالانخداع بمخططات الأعداء المتسترين.
وقد كان خسرو أفندي في طليعة أكابر تلاميذ رسائل النور الذين كان لهم دور بارز في جميع مراحل دعوة رسائل النور، والذين حوكموا في جميع الدعاوى المرفوعة ضد هذه الدعوة في المحاكم، والذين عانوا معاناة شديدة من أجل هذه الدعوة منذ أول يوم من أيامها حتى انتقال الإمام إلى دار البقاء، بل حتى آخر نفَس من أنفاسهم بعد رحيل الإمام.ومن أجل ذلك وَرَد اسمه في كليات رسائل النور أكثر من غيره من تلاميذ رسائل النور، وعلاوة على ذلك تُؤيِّد المصادر الرسمية والشفاهية هذه المكانة في دعوة رسائل النور لـ“خسرو أفندي” الذي بشّر الإمامُ بديع الزمان بنيله الإخلاص التام والرضا النبوي، فمثلًا إن العبارات الآتية التي وردت في ورقة الاتهام لـ“الإمام بديع الزمان” والتي حُرِّرت من قِبَل نيابة ولاية “إسبارطة” والتي تصف “خسرو أفندي” للافتة للأنظار، بل فيها عبارات قوية مع أنها لا تتناقض مع العبارات التي في رسائل النور ، ومن هذه العبارات ما يلي:
“المتَّهَم خسرو آلتين باشاق: يَعرف سعيدَ النورسي منذ 22 سنة، ويقرأ مؤلفاته، ويستنسخها ويقوم بتوزيعها، ويستنسخ حتى الخطابات التي كتبها سعيد النورسي، ويرسلها إلى من يريد أن تصل إليه، ويطلقون على من يقرأ هذه المؤلفات والخطابات اسم “طالب النور”، ويقبلون النورسي أستاذا، ويسمون جماعتهم المعنوية بـ“مدرسة الزهراء”، ورُفع أمره إلى المحاكم مرات عديدة مع سعيد النورسي حتى سُجن، وإن المخطوطات التي عُثر عليها في أثناء التحري في بيته مؤلَّفة من قِبل سعيد النورسي، وإنه كان يرسِل هذه المخطوطات إلى أحد المتهمين وهو “طاهر موطلو” ليكتبها على الأوراق المشمّعة ويستنسخها، وعُثِر في بيته على خطابات تخص سعيد النورسي، وكانت ترسَل هذه الطرود والخطابات إلى “رشدي جاكين”، وإنه من أقدم طلاب رسائل النور وأنشطهم، وإنه أكثر من يثق به سعيد النورسي من بين رجاله، ومن ثَمَّ يُعْرَفُ بين طلاب النور بأنه “أستاذ ثان” بعد النورسي… وكل هذه المعلومات ثابتة بإقرار المتَّهَمين، وبشهادة الشهود، وبالوثائق التي عثر عليها في أثناء التحريات”.(المجموعة،1136:2013)
إنه لم تتغير أبدًا تصرفات خسرو أفندي المخلصة تجاه أستاذه ورفاقه في الدعوة إزاء اهتمام الإمام بديع الزمان به، وتوجه طلاب النور إليه. ثم إن رسائله التي كتبها لأستاذه في حكم رسائل مشوّقة وجيزة تبين قيمة رسائل النور، وبمنزلة رسائل آداب تبيّن لطلاب النور كيفية التأدب مع أستاذهم ومع رسائل النور واحترامهما، وبمنزلة رسائل إخلاص تشهد على تأثير رسائل النور -التي تسيل مندفعة من بحر القرآن الذي لا ساحل له – في روح البشر. وهذه الرسالة خير مثال لهذا؛ حيث يقول فيها خُسرَو أفندي:
إن تلميذكم الذي كل جانب من جوانبه وحال من أحواله مليء بالتقصيرات والنقائص قد بسط وجوده تحت أقدام أستاذه الجليل، وحتى لو عومل معاملة عنيفة كل يوم أعنف من هذه المعاملة، وكان له ألف روح؛ فهو مستعد ليس استعدادًا صوريًّا – بل باعتراف قلبي – لأن يضَحي بها في سبيل أستاذه دون تردد، وكان تلميذكم المذنب يسأل خالقه منذ سنوات حاميًا يحميه، فلو دُقِّقَ في صحيفة أعمالي المليئة بالسواد من أولها إلى آخرها لظهرت فيها كثرة تضرعاتي وابتهالاتي ودموعي، فلو أن لي أرواحًا بعدد سكان الأرض فإني أعتبر أن التضحية بكل واحدة منها سعادة عظمى وشرف كبير في سبيل خدمة القرآن. فيا أستاذي الحبيب، ويا شيخي العزيز، ويا مرشدي الجليل الذي بحثت عنه سنوات عديدة، ويا أيها الداعي العزيز إلى القرآن، إنني أشعر أن معاناتي تنقلب إلى سرور وسعادة.
دعوة رسائل النور بعد رحيل الإمام النورسي
إن خسرو أفندي رحمه الله تمسك بدعوة النور، ولم يَحِدْ عن مبادئها الأصلية، وحافظ عليها في زمن ظهرت فيه تغيرات وتحولات وجماعات مختلفة تحت سقف رسائل النور بعد رحيل الإمام بديع الزمان، وأصبح سببًا مهمًا في وصول دعوة رسائل النور إلى يومنا هذا بدون أن تتلوث بأية ملوثات معنوية.
واستمر في عمله الدعوي بعد وفاة الإمام بديع الزمان دون أن يحيد عن مسلك “رسائل النور” وعن طريق الأستاذ النورسي قيد أنملة، ودون أن يخرّب أو يحرّف الميراث المعنوي للإمام بديع الزمان، واتخذ اتباع دساتير ومبادئ دعوة النور دون أن يئولها، واتباع السنة السنية ومخالفة البدع؛ مقصده الأساسيّ.
إن خسرو أفندي لم يحولْ أعماله الدعوية إلى ثروة، بل ضحى بكل ثروته في سبيل دعوته كما يشهد لسان حال حياته، ولم يسمح لنفسه أن يعيش عيشا رغيدا على الرغم من ثروته المعروفة، وإنما عاش في بيت خصصته له شقيقته.
ويجب أن ننوه إلى أن خسرو أفندي – وكذلك تلامذته الذين لازموه- لم يجعل هذه الدعوة الخالصة أداة لأية فتنة سياسية رغم مخالفة قسم من إخوانه له، وابتعادهم وانفصالهم عنه، منجرِّين وراء جاذبية السياسة في وقت بدأت فيه انقسامات محزنة، ولم يجعل دعوة النور القرآنية أداة لتحقيق أهداف ومآرب لصالح جهات أخرى في تلك السنوات المضطربة.
ولم ينحرف ولم يمل خسرو أفندي إلى البدع؛ بل حافظ على أهم مبدأ من مبادئ دعوة النور، ولم يقدم أدنى تنازلات لدوائر داخلية أو خارجية، أو لمن يوزعون مناصب ومقامات دنيوية في عالم السياسة، بل حافظ على عزة وكرامة دعوته طوال حياته.
وبوقفته الأصيلة الأبية هذه أصبح سببا لوصول دعوة النور إلى يومنا هذا صحيحة سليمة، وحقق بخدماته الدعوية ما قاله أستاذه في حقه: “ولأنه نال بحقٍّ سر الإخلاص فلا توجد فيه الأنانية وحب الظهور والشهرة؛ لذا فهو ممثل مهم جدا للشخصية المعنوية لرسائل النور بدلا مني”،(النورسي،533:2013) حيث صار الأستاذ أحمد خسرو أفندي مدارا قويا لوظيفة الإمام الأخروية، وخير خلف له، ووارثا أمينا لأجزاء رسائل النور بعد رحيل أستاذه الإمام بديع الزمان.
سجن بعد رحيل الإمام في سجون “إسبارطة” و“أسكي شهر” و“بورصة” و“برغاما” و“بوجة”، وبعدما أطلق سراحه من السجن أسس في أواخر أيام حياته مع تلامذته “وقف الخيرات” في إستانبول، ولم يمض وقت طويل على ذلك حتى انتقل إلى عالم الآخرة في شهر رمضان المبارك لسنة 1977م مخلفا وراءه آلافا من تلامذة النور، رحمة الله عليه.
كانت همة هؤلاء على قدر إيمانهم واستطاعوا أن يصبروا على المشقات والمعاناة في سبيل سلامة الإيمان للأمة المحمدية، وكانوا أناسًا ممتازين، اتخذوا خدماتهم تلك في سبيل رضا الله سبحانه أهم وظيفة لحياتهم، ولم يقيموا وزنًا للدنيا.
الأستاذ سعيد نوري المرشد الثالث لتلاميذ رسائل النور
ولد الشيخ سعيد النوري عام 1937 في ناحية «قُلَة أونو» التابعة لمحافظة إسبارطة، كان أبوه الحافظ مصطفى أحد أقرب تلاميذ الإمام بديع الزمان سعيد النورسي الستة الذين سماهم «الأركان الستة»، وقد كانت ناحية قولة أونو إحدى أهم المراكز التي كان لها دور في استنساخ رسائل النور التي ألفها الإمام بديع الزمان سعيد النورسي ونشرها في أرجاء تركيا، فعاش طفولته في بيئة مثل هذا المركز النشيط في دعوة رسائل النور.
عندما وُلد الأستاذ سعيد نوري أراد أبوه أن يسميه (سعيد النورسي) تيمنا بأستاذه؛ ولكن الأستاذ النورسي قام بتغيير الاسم إلى (سعيد نوري) وقد ذكر ذلك في كتاب ملحق أمير طاغ بقوله (الحافظ مصطفى الذي هو من بين المحترمين المجتهدين وقد سعى كثيرا لنشر رسائل النور ينبغي أن يسمي ابنه المبرور المحفوظ الذي كتب لي الشعاع السادس بـ (سعيد النوري) حتى تكون علاقته بأنوار رسائل النور قوية.(النورسي،40:2018)
بدأ تلقي العلم وحفظ القرآن صغيرا على يد والده وتحت إشرافه أولا، ثم على يد شيوخ آخرين، وعندما كان ابن اثنتي عشرة سنة شهد مع أبيه محاكمة الإمام النورسي في محافظة أفيون عام 1949 عندما كان سجينًا، وتشرف بتقبيل يد الإمام النورسي ونيل دعائه له وهو يساق إلى قاعة المحكمة تحت الإجراءات الأمنية المشددة.
ولأنه نشأ في بيت ارتبط بدعوة رسائل النور، فقد كان مجتهدا في صباه في نسخ رسائل النور، وصبر على فقدان الوالد في السجون والمعتقلات بسبب رسائل النور، وكانت والدته الفضلى مثالا للزوجة الوفية والأم الصبورة التي تقف مع زوجها في محنته، وتجتهد أن تربي ابنها على منهج رسائل النور وتثبته على ذلك.
توفي والده الحافظ مصطفى عام 1950 ولكنه استمر في التمسك بدعوة رسائل النور بكل قوته. وكان يزور الإمام النورسي مرات عديدة عندما كان الإمام في إسبارطة ويقبل يديه ويسمع نصائحه ووصاياه وأوامره، وقد زار الإمامَ النورسي قبل أن يلتحق بالجيش لأداء الخدمة العسكرية عام 1958 وكانت آخر زيارته له، فقال له الإمام فيها مظهِرا له حبه واهتمامه به: «يا حافظ سعيد بعد عودتك من الخدمة العسكرية سأقربك مني في الدعوة»، وبعد عودته من الجيش بسبب وفاة الإمام النورسي عام 1960 قدم إسطنبول وتلقى دروسًا في اللغة العربية وقراءة القرآن الكريم.
لقد عين الإمام النورسي قبل وفاته الشيخ أحمد خسرو خليفة له من بعده على رأس دعوة رسائل النور، ولم يمض وقت طويل حتى دعا الشيخُ أحمد خسرو الأستاذَ سعيد النوري إلى بيته ليسلمه قيادة دعوة رسائل النور في إسبارطة، وقد كان وجهُ الشيخِ أحمد خسرو مثل وجه الإمام النورسي وصوْتُه مثل صوْتِه مدة من الزمن عندما كان يتحدث مع الشيخ سعيد النوري، وقد ترك هذا تأثيرا بالغًا في نفسه، وشجعه كثيرًا على النشاط في الدعوة، فألقى محاضرات ودروسًا في القرآن الكريم ورسائل النور مدة طويلة في مدينة إسبارطة وفي المراكز التي افتتحت في ناحية قولة أونو، وربى كثيرا من التلاميذ، وخلال خمس عشرة سنة قضاها في جوار الشيخ أحمد خسرو عمل في الدعوة تحت أمره وكان أخلص تلاميذه إليه، وأقرب رفقاء دربه، وأخلص مشاوريه وكأنه أحب أولاده.
وقد قضى الشيخ أحمد خسرو والشيخ سعيد النوري عقوبة ستة أشهر في السجن عام 1964م في إسبارطة ثم ثلاث سنوات من عام 1971م حتى عام 1974م في محافظة أسكي شهر مع بعض رفقاء دربه من أمثال السيد مصطفى النوري، وبعد خروج الشيخ أحمد خسرو عام 1974م من السجن أسس وقف الخيرات مع رفقاء دربه في الدعوة من أجل طبع ونشر مصحف التوافقات الذي اكتشفه الإمام النورسي وكتبه الشيخ أحمد خسرو والذي وصفه الإمام النورسي بقوله: «لم يقدر أحد على كتابة مثل هذا المصحف منذ خير القرون حتى يومنا هذا»، ثم أقيمت مطبعة خصيصا لطبع هذا المصحف.(المجموعة،1389:2013)
لقد جاهد الشيخ سعيد نوري ورفقاؤه مع الشيخ أحمد خسرو جهادا كبيرا في ظروف ذلك العهد الصعبة، وبعد ثلاث سنوات من العمل والدعوة معًا في مركز الوقف بإسطنبول انتقل الشيخ أحمد خسرو إلى رحمة الله عام 1977م، لقد كان الشيخ أحمد خسرو يرى الشيخ سعيد النوري أكثر تلاميذه إخلاصًا وصدقًا ووعيًا، لذا عهد إليه تولي أمر الوقف وثم تولي قيادة الدعوة من بعده بوصية مكتوبة قبل وفاته. وبناء علی ذلك تولى الشيخ سعيد النوري الإشراف على دعوة رسائل النور ووقف الخيرات وتلاميذ رسائل النور منذ عام 1977م وحتى الآن. (المجموعة،1467:2013)
وقد أولى الشيخ سعيد نوري في السنوات التي تلت هذه مرحلة قيادته للدعوة اهتمامًا بالغًا بالحفاظ على ما تميزت به دعوة رسائل النور من أصالة وصفاء في بداية ظهورها، وحمل الدعوة مع رفقائه من تلاميذ رسائل النور في تعاون كامل بنفس الحماسة والنشاط والجدّ إلى يومنا هذا، فافتتحت مراكز النور التي تتخذ حروف القرآن أساسًا لها في كل أنحاء تركيا لتنشئة أجيال جديدة تشعر بمسؤولية الخدمة للإسلام والقرآن. وهو يمتاز بالصبر والاجتهاد والمثابرة والتواضع الشديد، ولا يحب الأضواء ويفضل أن يعمل بصمت. و مضى بدعوة رسائل النور مرفوع الرأس برغم الابتلاءات والمغريات، وحافظ على مبادئ رسائل النور دون انحراف، ولهذا طلاب رسائل النور فخورون بشيخهم ومرشدهم.
وقد تم في عهده افتتاح مطبعة حديثة كبيرة في إسطنبول ثم في إسبارطة لطبع مصحف التوافقات والنسخ الأصلية من رسائل النور بالحروف الإسلامية، وبدأت بالفعل تنتشر نسخ مصحف التوافقات ورسائل النور في كل العالم، ثم توسعت دائرة مراكز النور لتصل إلى بلدان أخرى، حيث افتتحت في كل من السودان ومصر والمملكة العربية السعودية وماليزيا وإندونيسيا وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرها من بلدان الغرب ليستفيد الناس من هذه الدعوة النورية عبر ترجمة رسائل النور إلى لغات هذه البلدان.
وبالأخص نالت ترجمة رسائل النور إلى اللغة العربية في العهد القريب إعجاب و استحسان الناس بما تفردت به من سلاسة وموافقة للأصل مقارنة بغيرها من الترجمات، وقد اتخذ الشيخ سعيد نوري مدينتي إسبارطة وإسطنبول مركزا له ومنهما يواصل الدعوة مع آلاف من رفقاء دربه بما تفيض عليهم خدمة القرآن والإيمان من جد ونشاط في كل محافظات تركيا وخارج تركيا.
المراجع والمصادر
1- بديع الزمان سعيد النورسي ، ملحق بارلا، دار السنابل الذهبية، إسبارطة ، 2018م
2- بديع الزمان سعيد النورسي، إشارات الإعجاز، دار السنابل الذهبية القاهرة.2009م
3- بديع الزمان سعيد النورسي، الشعاعات، دار السنابل الذهبية ، إسبارطة.2010م.
4- بديع الزمان سعيد النورسي، اللعمات، دار السنابل الذهبية، القاهرة.2010م.
5- بديع الزمان سعيد النورسي، المكتوبات، دار السنابل الذهبية، القاهرة.2013م.
6- بديع الزمان سعيد النورسي، ملحق قسطموني، دار السنابل الذهبية، إسبارطة.2015م.
7- المجموعة، السيرة الذاتية للإمام النورسي والأستاذ أحمد خسرة أفندي، دار الخيرات للنشر، إسبارطة.2013م.