مخلص كوربة

لقد دخلت الإنسانية مرحلة جديدة باكتشاف قوة البخار في العهد الذي عاش فيه الإمام النورسي، أي تخلصت من الاعتماد على الزراعة وبدأت تميل إلى الصناعة، وتغيرت أمور كثيرة بعد الثورة الصناعية، ولم يقتصر التغير على الصناعة فقط بل حدثت تغيرات في كل شيء بدءا في الدين والسياسة والاقتصاد والمجتمع وعلاقة الإنسان بالكون.

قراءة العصر الذي عاش فيه الإمام النورسي

عاش الإمام بديع الزمان سعيد النورسي في مرحلة وعصر من التاريخ والإنسانية بحيث لا يمكن معرفة جهاد رسائل النور إلا بفهم تلك المراحل.

وقد دخلت البشرية مرحلة جديدة باكتشاف قوة البخار في الفترة التي عاش فيها الإمام النورسي، أي بدأت تعتمد على الصناعة بعد أن كانت تعتمد على الزراعة، فتغيرت أمور كثيرة، ولم يقتصر التغير على الصناعة فقط، بل حدثت تغيرات في كل شيء بدءا من الدين والسياسة والاقتصاد وسلوك المجتمع وعلاقة الإنسان بالكائنات الأخرى.

كانت البشرية تعيش أحلك عصورها، وكان العصر عصر الحروب والإبادة الجماعية والتهجير، وكأن البشرية قامت بتمرد وعصيان عالمي بسبب الحروب العالمية.

أما في عالم العلوم فقد تطور نظام التفكير الذي يعتمد على القياس والمعرفة بدلا من العلم الذي يعتمد على التجربة، فالمعلومات التي حول الأشياء التي لا تقاس بدأت تفقد قيمتها، ومن ثم فقد بدأ الغرب الذي سلك هذا النهج يبحث طبيعة كل شيء ويراقبه ويفحصه، وأخضعه للقياس والتقييم، وبذلك نشأت فلسفة الطبيعة، وأصبحت طبيعة الأشياء هي المعتبرة، وصارت الأشياء التي لا توافق الطبيعة مرفوضة، وهذه الفكرة تسمى في لسان رسائل النور وأدبياتها النظرة إلى الكون بالمعنى الاسمي، أي النظرة إلى المخلوق دون التفكير في الخالق، وكانت فلسفة الطبيعة بدأت تتحدى ركائز الدين الأساسية، وترد الحقائق وفي مقدمتها الإيمان بالله تعالى، والبعث بعد الموت، والخلق والمعجزة؛ لأن فلسفة الطبيعة تؤمن بأن الشيء الموجود لا يذهب إلى العدم، والشيء المعدوم لا يأتي إلى الوجود، وهكذا أصبح العلم الذي يدل على وجود الله تعالى وسيلة لإنكار وجوده تعالى ومخالفًا للدين.

إن الجدال والجهود الفلسفية التي صاحبتها مرحلة التنوير في أوربا أظهرت النزعة العقلية التي تعتمد على البحث والتجارب، فطرح العلماء في الغرب إلى أن العالم نتيجة لسلسلة السبب والنتيجة، فتوصلوا بذلك إلى نموذج كون مكانيكي، فدافعوا عن فكرة أن الأسباب تؤدي إلى النتائج ومن ثم فلا حاجة إلى وجود إله، وكللت هذه النظرية بالفلسفة المادية والوجودية في القرن التاسع عشر.

ثم ظهرت إلى جانب هذه الأفكار تيارات فلسفية تتخذ الاستمتاع والتلذذ وإشباع الرغبات مدارا للحياة، وهذه أدت إلى حب المصلحة والأنانية، وهذه الغاية التي تتخذ مدارا للحياة أدت إلى ظهور حياة تركز على الأحاسيس.

إن الفلسفة الغربية أدت إلى حملات الاستعمار باسم رفع شأن المجتمع الغربي وتلبية حاجاته من المواد الخام، فبدأ العالم الإسلامي الذي أصبحت حريته مهددة يواجه تحدي الحضارة الغربية.

لقد بدأت الفلسفات الغربية تغزو العالم الإسلامي الذي صار تحت تأثير الغرب منذ القرن التاسع عشر، ولم يتأخر علماء الإسلام عن بيان اختلاف الفلسفة الغربية  عن الفلسفة القديمة، وبدءوا بمعرفة هذه الفلسفة الجديدة وطرق مواجهتها ومحاربتها.(انظر كتاب صراع الآراء الروحية والمادية).

بعد الحرب العالمية الأولى كان العالم الإسلامي عبارة عن مستعمرات للأسف، وانتشرت الفلسفة الغربية فيه انتشارا واسعا، ومع أن تركيا لم تصبح مستعمرة، إلا أن نمط الحياة الغربية دخلها بعد حرب التحرير، وانتشرت فيها الفلسفة الغربية، ويحكي الإمام النورسي هذا الوضع في مقدمة رسالة الطبيعة فيقول:

“سافرت إلى أنقرة قبل اثني عشر عامًا، في سنة ١٣٣٨هـ (١٩٢٢م)، ورأيت أن فكرة الزندقة الرهيبة تسعى إلى التسلل بمكر ودسيسة إلى الأفكار القوية لأهل  الايمان -بُغية إفسادها وتسميمها- الذين يفرحون لغلبة جيش الإسلام على اليونان، فتأوهت وقلت: هذا الأفعوان سيتعرض لأركان الإيمان”.

جهاد الإمام النورسي

عاش الإمام النورسي في فترة من الزمن أنكرت فيها الأسس الإيمانية والحية الدينية في العالم كله، وكان من الواجب القيام بتحويل الإيمان التقليدي إلى الإيمان التحقيقي، وتقوية الإيمان وإنقاذه، وكان لابد من الانشغال بالأسس الإيمانية أكثر من أي شيء آخر؛ لأن أي شبهة في ركن من الأركان الإيمانية أخطر من التهاون في العمل.

كان الإمام النورسي يعلم مصدر الإنكار والإلحاد وغايته، وكان يرى أن الإلحاد الذي يستهدف الإيمان وأركانه لا ينبع من الجهل، بل من العلوم والفنون، فقام بجهاد معنوي بكل قوته دفاعا عن الإيمان وتقوية أسسه ضد هجمات الكفر والإلحاد، وكرس كل وقته من أجل ترسيخ الإيمان التحقيقي وتقويته في المجتمع، ومن ثم فالقضايا الإيمانية التي يعالجها الإمام النورسي تشكل حيزا كبيرا من رسائله، وقد خصت كثير من الرسائل بهذا الموضوع.

وقد دافع الإمام النورسي عن أن وجود الله تعالى يمكن أن يثبت في مواجهة الفلسفة الغربية، وقد أثبت بالفعل بالأدلة القاطعة المسائل الإيمانية وعلى رأسها التوحيد.

أجل؛ إن إصلاح غرف المبنى الذي تزعزعت أركانه وتزيينها كيف يمكن أن ينفع في عدم انهيار هذا المبنى ؟! وهل رش أوراق الشجرة وأغصانها بالمبيدات حتى لا تيبس هذه الشجرة التي يحاول البعض تسويس جذورها؛ ينفع حياتها؟!

فجذور عالم الإنسان  وأسسه ؛ أركان الإيمان، وأهم أركان الإيمان؛ الإيمان بالله، ثم الإيمان بالأنبياء والإيمان بالآخرة، فلابد على الإنسان أن يتعلم أولا علم الإيمان قبل أي علم آخر، علم الإيمان هو أساس جميع العلوم وملكها وتاجها.

إن الإيمان التقليدي فينطفئ بسرعة أمام أعاصير الضلال والانحرافات التي تعصف في هذا الزمان بالذات، أما الإيمان التحقيقي فهو قوة لا تتزعزع ولا تنطفئ، فإذا تعرض صاحب الإيمان التحقيقي لعواصف الإلحاد الشديدة فإنها لا تؤثر فيه، ولا يوقع أعتى الفلاسفة في قلب صاحب الإيمان التحقيقي الشبهات والوساوس.

الإمام النورسي وتأثير حركته الإيمانية في زماننا

قدم الإمام النورسي الأدلة القوية المبنية على الإقناع  في رسائله وبهذا أثبت تغلب حضارة الإسلام على الحضارة الغربية، وكسر بذلك التأثير السلبي للحضارة الغربية على عالم الفكر الإسلامي، ومثل تحول عالم يتمركز حول الحضارة الغربية إلى عالم يتمركز حول الحضارة الإسلامية، فهو في هذه النقطة يشبه الإمام الغزالي الذي كسر تأثير الفلسفة اليونانية في العالم الإسلامي، ولكن هناك فرق مهم بينهما، وهو أن الإمام النورسي وقف ضد الفلسفة الغربية التي  انتشرت في العالم كله وأثرت عليه وجهاده جهاد عالمي كبير.

لقد رسخ الإمام النورسي إيمانا قويا في القلوب، وخدم بذلك في تأسيس الأمن والنظام في تركيا، وأرشد الناس ورجال الحكومة إلى السبيل الذي يحقق الأمن والهدوء، وقدم نموذج غير المفاهيم في التعليم وهو نموذج يجمع بين المدرسة التي تعتمد على العقل والمدرسة التي  تعتمد على القلب. وقد كسب الملايين من الناس من خلال رسائل النور إيمانًا قويًّا ووعيا للحياة الإسلامية ضمن دائرة السنة السنية الشريفة، وأصبحت  هذه الرسائل وسيلة لتخلص الناس من الأهواء النفسية الدنيئة، وكسب عمل خالص لله تعالى.